الاستقامة في مائة حديث نبوي
الدكتور محمد زكي محمد خضر
ـ 20 ـ التيسير للمسلمين ـ 21 ـ عدم إتباع الأغلبية المسيئة
ـ 20 ـ التيسير للمسلمين
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يَسِّروا ولا تُعَسِّروا وبَشِّروا ولا تنَفّروا "
(رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي)
الدين يسر ، قال تعالى : " وما جَعَلَ عَليكُم في الدّين من حَرَج " (24) ، ولذلك شرع الله بجانب الأحكام الأصلية ، أحكاما مخففة للتيسير في الظروف الطارئة ، كقصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان للمريض والمسافر والتيمم لمن لم يجد الماء ، وغير ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيسير ، (وما خُيِّر بين أمرين إلاّ اختار أيسَرَهُما ما لم يكن إثما)(25). و كان سهلا إذا باع ، سهلا إذا اشترى ، سهلا إذا قضى ، سهلا إذا اقتضى (26). وأمرهُ صلى الله عليه أمته بالتيسير في هذا الحديث ، وسيلة تربوية فائقة في هذا الدين اختطّت في القرآن الكريم في منهج يقضي بتدرج الأحكام . وهذا الأسلوب هو ما يجب على المسلم إتباعه في تربية الأطفال ، حيث يجب التيسير ، كلما كان ذلك ممكنا . والأسلوب نفسه يجب إتباعه مع قريبي العهد بالإسلام أو أصحاب الأعذار والحرف الشاقة . فالرخصة ما شُرِعت إلا رأفة من الله بعباده ، فليس لله حاجة في تحمل المرء مشقة لا يطيقها فليس هناك عبادة مقصودها المشقة والحرج . إلاّ أن ذلك لا يعني إتباع الرخص في محلِّها وغير محلها . فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم بالليل حتى تورمت قدماه ، ولو اعتمد على إخبار الله له بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر كعذر لترك قيام الليل لما قامه . وهنا يخطئ بعض الناس في الاستفسار عن مسألة معينة في المذاهب الفقهية المختلفة لكي يأخذوا بأيسرها على الدوام معتبرين أن ذلك هو المقصود من الأمر بالتيسير ، متناسين الظروف المحيطة بتلك الرخصة والحدود المسموح بها وعلاقتها مع غيرها من الأحكام . لذلك فالتيسير ليس معناه التحايل على الأحكام بإتباع البدائل السهلة على الدوام ، وإنما اعتبار الحكم المرخص به حكما يجوز الأخذ به إن كان هناك عسر أو مشقة أو ضيق في الوقت أو إكراه أو ما شابه ذلك.
من الأمثلة الواضحة على التيسير أن لا يطيل الإمام القراءة إن كان بين المصلين شيوخ أو مرضى أو أصحاب حاجات . ولكن له أن يطيل صلاته في جوف الليل . فالصلاة بقدر تحمل أضعف الناس بين الجماعة هي الصلاة الأفضل . وكذلك تتحدد سرعة مشي الركب بسرعة أضعف القوم ، لذلك قيل قائد الركب أضعفهم.
إن خير الأمور أوسطها . فالأخذ بالعزيمة لمن لا يستطيعها يولد نفورا وكرها للدين! والأخذ بالرخص لمن أوتي قوة وقابلية يولد فتورا وضعفا في الأيمان . وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتفرس في وجه السائل فيجيبه أو ينصحه بحسب طاقته ، فيجيب الضعيف غير ما يجيب القوي ، ويجيب حديث العهد بالإسلام غير ما يجيب السابقين الأولين . إن للشطط والغلو مظاهر عديدة ، منها التناوب بين فترات الفتور في العبادة والغلو فيها فترى المرء تاركا للصلاة مسرفا على نفسه حتى إذا جاء رمضان لزم المسجد وهجر الناس أو عبد الله بغير ما فرض الله تعالى أو سن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كصيام زكريا أو صلاة مائة ركعة في يوم مخصوص ، فإذا ما خرج رمضان أو ملّ من العبادة التي فرضها على نفسه عاد لسابق عهده ، فترك فرائض الله وسنن رسوله وتلك هي الغواية.
إن في العبّاد المتعصبين عن غير علم من أفراد الأمة شبه بالنصارى الذين ابتدعوا الرهبانية التى لم يكتبها الله عليهم ، أما ذوي العلم غير المتقين من هذه الأمة ففيهم شبه باليهود الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وضرب الله مثلهم: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " (27). والمؤمن يدعو الله تعالى أن لا يكون من هؤلاء ولا من هؤلاء: " أهدِنا الصِراطَ المُستَقيمَ صراطَ الّذينَ أنعَمتَ عَليهِم غيرِ المَغضوبِ عَليهِم ولا الضّالينَ " (28). وفي السنة العديد من الأمثلة على الحث على تخير أوسط الأمور والنهي عن التعصب والغلو. فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " هلَكَ المُتَنَطِّعونَ " (29) قالها ثلاثا ، والمتنطعون هم المتشددون في غير موضع التشديد.
ـ 21 ـ عدم إتباع الأغلبية المسيئة
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تَكونوا إمَّعَة تَقولوا إن أحسَنَ النَّاسُ أحسَنّا وإن ظَلَموا ظَلَمنا ولكن وَطِّنوا أنفُسَكُم إن أحسَنَ النّاسُ أن تُحسِنوا وإن أساؤوا أن لا تَظلِموا "
(رواه الترمذي وقال حديث حسن)
الإمعّة هو الذي لا رأي له فهو يتابع الأكثرية أو كل أحد سواه والمؤمن قوي في إيمانه ، فهو يستحي من الله لكن ليس من الحياء متابعة الناس في الشر. ويعتمد ذلك على عمق الإيمان ، فالمؤمن القوي الإيمان لا يتابع على الباطل أحدا ولو خالف الناس كلهم وحده ، أما من كان أضعف من ذلك فربما جامل الناس ، وعليه عند ذلك أن يتهم إيمانه ، ويستغفر ربه ويتوب إليه.
إن المؤمن قائد في طريق الحق وهو متبوع بالحق غير تابع للباطل . وطريق الاستقامة يحتم عليه أن يميز بين الحق والباطل ، ويفرض شخصيته التي قوامها العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخالف من خالفهما ولا يخاف في الله لومة لائم . فكم من سنة أميتت أحياها الله على يد فرد مسلم واحد بإصراره على مخالفة كل من كان حوله. وكم من عمل صالح مستمر الفائدة كان أساسه ثبات رجل واحد. لا شك بأن مخالفة الغالبية قد تسبب للمرء صعوبات قد لا يلقاها غيره ، لكن ذلك من الجهاد إن كانت النية خالصة لله ، لا لحب الظهور جريا على قاعدة - خالف تُعرف-. فمن خالف لكي يعرف فهو مرائي كما سيمر بنا . وعلى المؤمن أن يتحمل ما يحصل له من أذى في سبيل الله ، إلاّ أن عليه أن يعرف قدر نفسه فلا يغالي فيشتَط في المخالفة في أمور ليست ذات بال بحيث يرتكب آثاما أكبر من الطاعة التي قام بها ، فكل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضده . أما في الأمور ذات العلاقة بالمبادئ الأساسية فعلى المؤمن أن يكون على أشد الصلابة ، ولتكن له في رسول الله أسوة حسنة حين ساومه الكفار على التخلي عن دعوته فقال قولته المشهورة لعمه أبي طالب: " واللّه يا عَمّ ، لو وضعوا الشَمسَ في يَميني والقَمرَ في يَساري على أن أترُك هذا الأمرَ ما تَرَكتُهُ حتى يُظهِرَهُ اللّهُ أو أهلِكَ دونَهُ " (30). ـ
المراجع :
ـ24ـ سورة الحج الآية 78.
ـ25ـ حديث " ما خُيِّر بين أمرين إلاّ اختار أيسَرَهما ما لم يكُن إثما " رواه البخاري.
ـ26ـ حديث " رحم الله عبدا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه.
ـ27ـ سورة الجمعة الآية 5.
ـ28ـ سورة الفاتحة الآيات 6-7.
ـ29ـ رواه مسلم.
ـ30ـ سيرة ابن هشام .