الاستقامة في مائة حديث نبوي
الدكتور محمد زكي محمد خضر
ـ 18 ـ عدم إطاعة مخلوق في معصية الخالق - 19 - تقدير الرخص بقدرها
ـ 18 ـ عدم إطاعة مخلوق في معصية الخالق
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لا طاعةَ لِمَخلوق في مَعصِيَةِ اللّهِ تباركَ وتعالى "
(رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه وأحمد واللفظ له)
أعطى الله تعالى المثال الواضح والواقعي لعدم إطاعة أوامر الناس إن كانت مخالفة لأوامر الله تعالى ، حتى ولو كان الآمر أقرب الناس ، كالوالدين: " وإن جاهداكَ على أن تُشرِكَ بي ما ليس لَكَ بِهِ عِلم فلا تُطِعهُما ، وصاحِبهُما في الدُنيا معروفا "(15).
وما قصة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه مع أمه ببعيدة ، حيث حلفت أن لا تأكل أو تشرب حتى يترك دينه ، فقال لها قولة الحق. فالمؤمن يؤدي : لو كانت لك مائة نفس ونفس فخرجت واحدة بعد الأخرى ، ما تركت ذلك حقوق الناس مؤمنهم وكافرهم ويداري سفهاءهم لكنه لا يطيعهم فيما ليس لله فيه رضا ولا يداهن على حساب دينه. ويستثنى من ذلك الإكراه الذي هو موضوع الحديث الآتي.
وفي كتاب الله محاورة بين أهل جهنم ، السادة المطاعون والأتباع: " قالَ ادخُلوا في أمم قَد خَلَت مِن قَبلِكُم مِن الجِنّ والإنسِ في النّارِ كُلَّما دَخَلَت أُمة لَعَنَت أختَها حَتّى إذا ادّارَكوا فيها جَميعا قالَت أُخراهُم لأولاهُم رَبَّنا هؤلاء أضَلّونا فآتِهِم عَذابا ضِعفا مِن النّارِ ، قال لِكُل ضِعف ولكن لا تعلمون . وقالَت أولاهُم لأخراهُم فَما كانَ لَكُم عَلينا مِن فَضل فذوقوا العَذابَ بِما كُنتُم تَكسِبونَ " ـ (16) ـ .
وعلى هذا فإن الطريق إلى رضوان الله واضحة جلية هي في طاعة أوامره لأنه هو الإله. أما البشر الذين يأمرون وينهون ، حتى لو تجبروا وطغوا وأخافوا الناس وأرهبوهم فهم زائلون ولا طاعة لهم إن كانت أوامرهم مخالفة لأوامر الله تعالى .
ـ 19ـ تقدير الرخص بقدرها
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن اللّهَ تَجاوَزَ عَن أمّتي الخَطأُ والنِسيانُ وما استُكرِهوا عليه " .
(رواه ابن ماجه والطبراني عن ابن عباس وثوبان)
المسلم يدعو ربه: " ربّنا لا تؤاخِذنا إن نَسينا أو أخطأنا " (17) فيستجيب الله تعالى للصادقين في دعائهم . فقد جبل ابن آدم على النسيان: " ولَقد عَهِدنا إلى آدمَ مِن قَبلُ فنَسيَ ولَم نَجِد لهُ عَزما " (18). أما الإصرار على الخطأ فهو ذنب مستقل لا علاقة له بالخطأ . قال الله تعالى في مدح المؤمنين: " إنّ الّذينَ اتَّقوا إذا مسَّهُم طائِف من الشيطانِ تَذَكّروا فإذا هُم مبصِرون " ـ (19) ـ
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " كُلّ ابن آدمَ خطّاء ، وَخيرُ الخَطّاءين التوابونَ "(2).
أما الإكراه ، فيقدر بحسب الظروف. قال الله تعالى: " إلاّ مَن أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمَئِن بالإيمانِ "
(21). وقد يتوسّع بعض المسلمين في تعدّي حدود ما يدخل تحت حكم الإكراه ، فتراهم يقولون عند ارتكاب بعض الآثام أنهم مجبرون في حين أنه ليس هناك من أجبرهم حقيقة . إن من الإكراه ما هو بدني وما هو معنوي ، فحد الإكراه البدني يعتمد على قابلية المرء البدنية لتحمل ذلك . قيل أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نحيف البنية قصير القامة جدا ، فكان يقول لو أكرهني شخص بضربي سوطين أو أقول ما يريد مني قوله ، لقلت مثل ما أراد. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان قوي البنية يخافه الشجعان ، لذلك وبخلاف معظم الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة سرا ، وقف عمر بعد أن طاف حول الكعبة سبعا وعلى ملأ من سادة قريش قال: إنني مهاجر عند الصباح ، فمن أراد أن تثكله أمه فليلحق بي ببطن وادي كذا . فالإكراه الذي اضطر المهاجرين إلى التخفي والهجرة سرا لم يكن إكراها كافيا لعمر بحيث يتبع الأسلوب نفسه. وأساس التقية هو هذا . قال الله تعالى: " إلاّ أن تتّقوا منهُم تُقاة " (22) فاتقاء أذى المتجبرين والطاغين خوفا من بطشهم جائز لضعفاء المسلمين كرخصة ، لكن التوسع في التقية بحيث يعيش المرء بوجهين ، وجه مع من يآمنهم ، ووجه مع من يخافهم ولو خوفا بسيطا هو استخدام للرخصة الخاصة في غير موضعها وقد يؤدي ذلك إلى اقتراب المسلم من تصرف المنافقين والعياذ بالله. ومثال الإكراه المعنوي التعذيب النفسي و الاهانات على ملأ من الناس ، وهي مختلفة الوطأة بين الناس بحسب أحوالهم أيضا . أما الأخذ بالعزيمة وعدم الخضوع للإكراه مهما كانت النتائج من أذى دنيوي فهو دأب المجاهدين الصادقين السابقين بالخيرات . قال صلى الله عليه وآله وسلم: " سيد الشُهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله " (23).ـ
ولقد أجمل الإمام الشافعي النتائج المترتبة على الإكراه بقاعدة فقهية في غاية الإيجاز وتنطبق في حالات الإكراه و المشقة والمرض والضعف وغيرها ، وهي : - كلما ضاق الأمر اتسع - ، فكلما استجدت ظروف صعبة طارئة أو جديدة تستدعي معالجة على غير العادة ، كلما كانت الشريعة سمحة بحيث تزداد الحدود التي بإمكان المسلم أن يتحرك فيها ويكون معذورا على ذلك ، وينطبق هذا الأمر على الإكراه وعلى المشاق والظروف الطارئة الأخرى . ويستطيع إدراك ذلك من أوتي نصيبا من فهم كتاب الله وسنة رسوله وحظا من الفقه وعند ذلك يمكن أن يفتي لغيره من الناس .
المراجع :
ـ15ـ سورة لقمان الآية 15.
ـ16ـ سورة الأعراف الآيتان 38 و 39.
ـ17ـ سورة البقرة الآية 286.
ـ18ـ سورة طه الآية 115.
ـ19ـ سورة الأعراف الآية 201.
ـ20ـ رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
ـ21ـ سورة النحل الآية 106.
ـ22ـ سورة آل عمران الآية 28.
ـ23ـ رواه الحاكم عن جابر بن عبد الله وصححه .