لا تحزن
للشيخ / عائض القرني
الذِّكْرُ الجميلُ عمرٌ طويلٌ - أُمَّهاتُ المراثي -
الذِّكْرُ الجميلُ عمرٌ طويلٌ
منْ سعادِة العبدِ المسلمِ أنْ يكون لهُ عمرٌ ثانٍ ، وهو الذِّكْرُ الحسنُ ، وعجباً لمنْ وجد الذكْر الحسنَ رخيصاً ، ولمْ يشترِهِ بمالِه وجاهِه وسعيِه وعملِه .
وقدْ سبق معنا أنَّ إبراهيم عليهِ السلامُ طلب منْ ربِّه لسان صدْقٍ في الآخرِين ، وهو : الثَّناءُ الحسنُ ، والدعاءُ له .
وعجبْتُ لأُناسٍ خلَّدوا ثناءً حسناً في العالمِ بحُسْنِ صنيعهِم وبكرمهِم وبذْلِهم ، حتى إنَّ عُمَرَ سأل أبناء هرِم بنِ سنانٍ : ماذا أعطاكمْ زهيرٌ ، وماذا أعطيتُموهُ ؟ قالوا : مَدَحَنا ، وأعطيناهُ مالاً . قال عمرُ : ذهب واللهِ ما أعطيتموهُ ، وبقي ما أعطاكمْ .
يعني : الثناءُ والمديحُ بقي لهمْ أبد الدّهرِ .
أولى البرِيَّةِ طُرَّا أنْ تُواسِيهُ |
| عند السُّرورِ الذي واساك في الحزنِ |
إن الكرام إذا ما أُرسِلُوا ذكرُوا |
| منْ كان يألفُهم في المنزلِ الخشنِ |
أُمَّهاتُ المراثي
هناك ثلاثُ قصائد خلَّدتْ منْ قِيلتْ فيهم :
ابنُ بقيَّة الوزيرُ الشهيرُ ، قتلهُ عَضُدُ الدولةِ ، فرثاهُ أبو الحسنِ الأنباريُّ بقصيدتِه الرائعةِ العامرةِ ، ومنها :
عُلُوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ |
| لحقٌّ تِلْك إحدى المُعجزاتِ |
كأنَّ الناس حوْلك حين قاموا |
| وفودُ نداك أيام الصِّلاتِ |
كأنَّك واقِفٌ فيهم خطيباً |
| وهمْ وقفُوا قِياماً للصَّلاةِ |
مددت يديْك نحوهمُو اختفاءً |
| كمدِّهما إليهمْ بالهِباتِ |
ولما ضاق بطنُ الأرضِ عنْ أنْ |
| يُواروا فيه تلك المكْرُماتِ |
أصاروا الجوَّ قبرك واستعاضوا |
| عليك اليوم صوت النّائِحاتِ |
وما لك تُربةٌ فأقولُ تُسقى |
| لأنَّك نُصْب هطْلِ الهاطِلاتِ |
عليك تحيَّة الرحمنِ تتْرى |
| بتبريكِ الفؤادِ الرّائِحاتِ |
لِعظْمِك في النُّفُوسِ تباتُ تُرعى |
| بحُراسٍ وحُفَّاظٍ ثقاتِ |
وتُوقدُ حولك النيرانُ ليلاً |
| كذلك كُنت أيام الحياةِ |
ما أجمل العباراتِ ، وما أجمل الأبياتِ ، وما أنْبَلَ هذهِ المُثُل ، وما أضخم هذهِ المعاني . الله ما أجْملها من أوسمةٍ ، وما أحسنها من تِيجان !!
لمَّا سمع هذه الأبيات عضدُ الدولة الذي قتلهُ ، دمعتْ عيناه وقال : وددتُ واللهِ أنني قُتلتُ وصُلِبْتَ ، وقيِلتْ فيَّ .
ويُقتلُ محمدُ بنُ حميدٍ الطوسيُّ في سبيلِ اللهِ ، فيقولُ أبو تمام يرثيه :
كذا فليجلَّ الخطبُ وليَفْدحِ الأمرُ |
| فليْس لِعَيْنٍ لم يفِضْ ماؤها عُذْرُ |
تُوفِّيتِ الآمالُ بعد محمَّدٍ |
| وأصبح في شُغلٍ عن السَّفرِ السَّفرُ |
تردَّ ثياب الموت حُمْراً فما دَجَى |
| لها الليلُ إلا وهي منْ سُنْدُسٍ خُضْرُ |
إلى آخرِ ما قال في تلك القصيدةِ الماتِعةِ ، فسمِعها المعتصمُ ، وقال : ما مات من قِيلتْ فيه هذهِ الأبياتُ .
ورأيتُ كريماً آخر في سلالةِ قُتيبة بنِ مسلمٍ القائدِ الشهيرِ ، هذا الكريمُ بذل ماله وجاههُ ، وواسى المنكوبين ، ووقف مع المصابين وأعطى المساكين ، وأطعم الجائعين ، وكان ملاذاً للخائفين ، فلمَّا مات ، قال أحدُ الشعراء :
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يبق مشرِقٌ |
| ولا مغرِبٌ غلاَّ لهُ فيهِ مادحُ |
وما كنتُ أدري ما فواضِلُ كفِّهِ |
| على الناسِ حتى غيَّبتْهُ الصَّفائحُ |
وأصبح في لحدٍ مِن الأرضِ ضيِّقٍ |
| وكانتْ به حيّاً تضِيقُ الصَّحاصحُ |
سأبكيك ما فاضتْ دموعي فإنْ تفِضْ |
| فحسْبُك مني ما تجِنُّ الجوابِحُ |
فما أنا مِنْ رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازِعٌ |
| ولا بسرورٍ بعد موتِك فارِحُ |
كأنْ لم يُمتْ حيٌّ سواك ولم تقُمْ |
| على أحدٍ إلا عليك النَّوائِحُ |
لئنْ عظُمتْ فيك المراثي وذكْرُها |
| لقد عظمتْ مِنْ قبلُ فيك المدائحُ |
وهذا أبو نواس يكتبُ تاريخ الخصيبِ أميرِ مِصْرِ، ويسجِّل في دفترِ الزمانِ اسمه فيقولُ :
إذا لم تزُرْ أرض الخصيبِ ركابُنا |
| فأيَّ بلادٍ بعدهنَّ تزورُ |
فما جازهُ جودٌ ولا حلَّ دونه |
| ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ |
فتىً يشتري حُسْن الثَّناءِ بمالِه |
| ويعلمُ أنَّ الدَّائراتِ تدورُ |
ثم لا يذكُرُ الناسُ منْ حياةِ الخصيبِ ، ولا منْ أيامِه إلا هذهِ الأبيات .
وقفــــــةٌ
((اللهمَّ اقِسمْ لنا مِنْ خشيتِك ما تحُولُ به بيننا وبين معاصيك ، ومنْ طاعتِك ما تُبلُغُنا به جنَّتك ، ومن اليقينِ ما تُهوِّنُ به علينا مصائب الدنيا ، ومتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحْييْتنا ، واجْعلْه الوارِث منا ، واجعلْ ثأرنا على منْ ظَلَمَنا ، وانصُرْنا على منْ عادانا ، ولا تجعلْ مصيبتنا في ديننِا ، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ عِلْمِنا ، ولا تُسلِّطْ علينا بذنوبنا منْ لا يرحمُنا )) .
قال عليُّ بنُ مقلة :
إذا اشتملتْ على اليأسِ القلوبُ |
| وضاق لما بهِ الصَّدرُ الرَّحيبُ |
وأوْطنتِ المكارهُ واطمأنَّتْ |
| وأرستْ في أماكنِها الخطوبُ |
ولم تر لانكشافِ الضُّرِّ وجهاً |
| ولا أغنى بحِيلتِهِ الأريبُ |
أتاك على قُنُوطِك منهُ غَوْثٌ |
| يمُنُّ به القريبُ المُستجيِبُ |
وكُلُّ الحادثاتِ وإن تناهتْ |
| فموصولٌ بها فرجٌ |