الأربعاء، 24 يونيو 2015

(¯`*•أهـل الشام•*´¯) سلسلة المؤرخون - ( ابن خلدون نبتة حضارية وليس ثمرة عصره (الجزء الثاني و الأخير))







سلسلة المؤرخون




ابن خلدون نبتة حضارية وليس ثمرة عصره (الجزء الثاني و الأخير)





ابن خلدون ومؤامرات السياسة


وبين سنتيْ 764 و766ه كان اليأسُ قد دبّ إلى نَفْس ابن خلدون، من المعترك السياسي في المغرب، فرحل إلى الأندلس، متوجهًا أولًا إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، ثالث ملوك بني الأحمر، وباني مسجد الحمراء في غرناطة، ومكلَّفًا ثانيًا من السلطان نفسه، بالسفارة عنه إلى (بدرو)، الطاغية ملك قشتالة، فارتحل إلى إشبيلية ولقي الطاغية، وأبرم الصلح، وعاين آثار أجداده بإشبيلية، وعَرض عليه الطاغية الإقامة عنده، وأن يرد عليه تراث آبائه بإشبيلية فاعتذر [8].

(وقد طابت الحياة له في الأندلس، واستقدم أهله، وهيأ لهم جميع أسباب الراحة، إلا أنّ أمد هذه السعادة لم يَطُلْ، إذ يبدو أن ابن الخطيب قد داخلته الغيرة بسبب الحَظوة التي نالها ابن خلدون عند السلطان، فأخذ يسعى به لدى السلطان ابن الأحمر، حتى تكدّر صفو العلاقات بينهما، وحدثت الجفوة بين الرجلين، فأدرك ابن خلدون أنه لم يبق له مُقام في الأندلس، وأن لا مناص من الرحيل عنها


ولعشر سنوات تالية (766-776هـ)، انغمس ابن خلدون في الحياة السياسية، متقلبًا في أتون الفتن، التي وقعت بين أصحاب بجاية، وقسنطينة، وتلمسان، من بني مرين، وبني زيان، وقد راودته نفسه غير مرة بالاعتزال، فاعتزل ببسكرة طورًا، وبرباط الشيخ الولي أبي مرين طورًا آخر، وبفاس طورًا ثالثًا، وأعتقد أن هذه السنوات كانت من أسوأ فترات حياة ابن خلدون.

(ولم تكن تنتهي هذه السنوات العشر، حتى وجد ابن خلدون، أن الأبواب قد سُدَّت في وجهه، وأصبح موضع ريبة جميع أمراء المغرب، فخلف أسرته بفاس، وجاز إلى الأندلس ثانية، في ربيع سنة 776هـ، لينزل ضيفًا على سلطان غرناطة ابن الأحمر، لكن بلاط فاس توجس خيفةً من إقامته في الأندلس، وخشي من دسائسه، فمنع عائلته من الالتحاق به، وفاوض سلطان غرناطة بتسليمه، فأبى تسليمه إليهم، فطلبوا إليه إبعاده إلى تلمسان، فأجابهم لذلك)[9].

وكان هذا السلوك ثمرة من ثمرات هذه التجارب السياسية المرّة التي وضع ابن خلدون نفسَه فيها.


وعندما عاد ابن خلدون إلى المغرب بعد رحلة فاشلة إلى الأندلس، حاول أمراء المغرب المتحاربون تسخيره لخدمتهم. لكنه كان قد اتخذ قرارًا باعتزال هذه الفتن كلها، ولهذا لجأ إلى أحياء أولاد عريف في قلعة (جبل كزول)، فأنزلوه بعد أن استقدموا له أهله من تلمسان، في قلعة ابن سلامة، الواقعة قريبًا من فرندة، وقريبًا من تاهرت في الجزائر (المغرب الأوسط)، وفي هذه القلعة أقام ابن خلدون أربع سنوات كتب المقدمة في خمسة أشهر منها، خلال سنة 779ه، (متخليًا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملتُ المقدمة منه على هذا النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالتْ فيها شآبيب الكلام، والمعاني، على الفكر، حتى امتخضت زُبدتُها، وتألفت نتائجها).. ومن ثمّ بدأ ابن خلدون في كتابة تاريخه الموسوم بكتاب العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في ديوان العرب والعجم والبربر، معتمدًا على الكثير من حفظه وعلى قوة ذاكرته)[10].

لكن ابن خلدون اكتشف أنّ مشروعه الفكري من العُمق والسعة، بحيث لا يصلح معه هذا الاعتزال، وما يقتضيه من ابتعاد عن مصادر المعرفة والمعلومات، ولهذا رأى من الضروري أن يعمل على العودة إلى تونس، ليستعين بما في خزائن آثارها من مخطوطات وكتب، على إتمام مشروعه، وقد مهّد لتلك العودة بالكتابة إلى السلطان أبي العباس، ملتمسًا منه أن يسمح له بالعودة، وأن يعفو عنه، فتحقق له ما أراد .

 

ابن خلدون في مصر


وفي أواسط سنة 780ه رجع ابن خلدون إلى تونس، راغبًا في اعتزال المناصب، والعُكوف على مشروعه العلمي، لكنّ خصومه لم يتركوه، فسرعان ما كثرت ضده الوشايات، يقودها الفقيه المعروف محمد ابن عرفة، ومع أنها لم تنجح، لثبات السلطان أبي العباس على حمايته، وأمره له بالإكباب على تأليف كتاب العِبر، إلا أنّ ابن خلدون، بعد أن أمضى أربع سنوات في تونس، سئم مكابدة الأحقاد، فتوسّل إلى السلطان في تخلية سبيله، لقضاء فريضة الحج، حتى أذن له، فركب البحر إلى الإسكندرية فوصلها في شوال 784هـ، وودّع المغرب والأندلس إلى غير رجعة.

وفي الفترة المصرية التي امتدت حوالي ربع قرن، تألق عبد الرحمن ابن خلدون، وأعاد تنقيح (المقدمة) و(العبر)، في ظلال القاهرة، التي كانت يومئذ (خضرة الدنيا)، (وبستان العلم)، (ومحشر الأمم)، (ومَدْرج الذرّ من البشر)، (وإيوان الإسلام)، (وكرسي الملك) [11]، فدرّس بأزهرها، يوم كان أزهر الدنيا، الذي يُجلّه العالم الإسلامي كله، ولا يتجاسر على النيل منه أحد!

ثم تولّى التدريس في مدرسة القمحية، التي كانت بجوار جامع عمرو بن العاص، ثم قضاء المالكية بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية، ملتزمًا بشريعة الله، محاربًا الفساد، الذي كان من قَدَر مصر، في ذلك العصر، وكان قَدَرها في عهود أخرى كثيرة، عرفناها من كتب التاريخ.

ومع ذلك فلم تسكت حوادث الدهر عن ابن خلدون، ففجعته في أولاده جميعًا، فقد غرقت السفينة التي قدموا فيها من تونس، فمات أهله وولده، (وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب، والجزع، ورجح الزهد)، وطلب الإعفاء من منصبه، وعزم على الحج، وقضى فريضته، وذهب لزيارة بيت المقدس سنة 802ه، والتقى بتيمورلنك سنة 803هـ في دمشق، ثم عاد إلى القاهرة، فأعيد إلى منصبه للقضاء على مذهب المالكية، وظل يتقلّب فيه بين تولية وعزل [12]، حتى لقي الله -غفر الله له- في الخامس والعشرين من رمضان سنة808هـ.

هذه الحياة القلقة المتوترة، في هذه الظروف السياسية والقبلية المعقدة، لم تكن قادرة - بحد ذاتها - على إفراز رجل من طراز عبد الرحمن بن خلدون، لو لم يكن هناك ما يقف ابن خلدون فوقه، غير هذه الأرضية الهشّة، وهذا الواقع العفن المظلم.. ولم يكن هذا الذي وقف ابن خلدون فوقه، غير هذه الحضارة الإسلامية، وتراثها العظيم، وأصولها الثابتة القوية.

هذا الرجل الكبير، صاحب هذا العقل الموسوعي، الرجل الذي ينغمس في الأحداث، لكنه يبقى وثيق الصلة بالفكر والتراث، يحلم بلحظة الاعتزال ليبحث -لمغربه وأمته- عن حل جذري، يمتد إلى أعماق الرؤية الحضارية، ويتجاوز اللعبة السياسية الظاهرة.

هذا الرجل، كان يخترق تراثه، ويعرف إمكانات أمته الحضارية في الانبعاث، ويدرك أن الواقع نتاج خطأ في الرؤية، وفقر في الفكر، وضباب في الوعي الحضاري.

لقد كان ابن خلدون، قد يئس من الإصلاح عن طريق السياسة، ولعله وهو يحقق طموحه المشروع، المنطلق من شعوره بفوقيته وعبقريته، كان يحاول، وهو يتقلب في المناصب، أن يجد مكانًا ملائمًا، يستطيع التغيير من خلاله، لكنه وجد هذا الطريق السياسي مغلقًا، فالحكام المتصارعون (الطائفيون)، في المغرب والأندلس، ينظرون إلى أي منصب في دولهم الطائفية، حتى ولو كان منصب الحاجب (أو رئيس الوزراء)، على أنه منصب تنفيذي، وعلى صاحبه أن يكون مترجمًا لهوى الحاكم، وأن لا يحاول أن يكون عقلًا مستقلًا، يضاف إلى عقل الحاكم، بل عليه أن يكون -لكي يبقى وينجح- جزءًا من عقل الحاكم، يُبرِّر له ما يريده، أو شارحًا للمتن، الذي يمليه عليه الحاكم المعصوم!!

وقد لا تكون شخصية (الحاجب)، أو (الوزير)، ملغاة تمامًا، لكن من المؤكد أن القرارات الكبرى، التي تتصل بالسيادة والحفاظ على (الدولة)، وطموحات صاحبها، تبقى في فترة كالتي عاش فيها ابن خلدون، غير قابلة للاجتهاد، أو التعدد في الرأي، وبالتالي فأقصى ما يستطيعه السياسي التنفيذي من تغيير، يبقى في مستوى الجزئيات المعاشية الاجتماعية، والاقتصادية، وليس في البناء العام!

كان الإصلاح عن طريق الفكر هو المتاح، بل والمطلوب، حتى ولو تأخر الزمان بعض الوقت، فذلك خير من الاستسلام اليائس، وكان ابن خلدون مدركًا أن هذا هو حصاد تراكمات سياسية، ونفسية، وعقلية، سيطرت على المغرب والأندلس، بعد سقوط الموحدين في موقعة الأرك (609هـ)، وظهور الدول الوارثة المتطاحنة في المغرب، وسقوط المدن الأندلسية، وانحسار الإسلام في الأندلس، في غرناطة ووادي آش تحت إمرة بني نصر القحطانيين.

إن هذا الواقع المريض لم يكن يملك الدواء، لكنه كان يملك عوامل الإثارة التي تدفع الطبيب للبحث عن الدواء.

كان ثقل الواقع السياسي والمعاشي، وما يكتنفه من أمراض وعوارض قدرية من الله (كالطاعون الأسود)، أو الخلافات السياسية القبلية، التي أفرزها خروج قطار المجتمع عن قضبانه الصحيحة.

كان هذا الواقع بأوزاره، يقوم بعملية الشحن الكبيرة، لابن خلدون، وبخاصة أنه عاش هذا الواقع في أسوأ مستوياته، في المستوى السياسي العفن، وكان تراث ابن خلدون الموسوعي، ورصيده في الفقه الحضاري الإسلامي، والوعي التاريخي، يشدانه إلى العكوف على تقعيد وسائل الخروج من هذا الواقع.. إنه فقيه ومفتي، وهذا يقتضي استيعابه الكبير للمعطيات القرآنية، التي قدمت رصيدًا كبيرًا، لأحوال الأمم السابقة، صعودًا وانكسارًا.

ويقتضي استيعابه للسيرة النبوية الشريفة، والنموذج الأعلى، الذي قدّمه الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته في دولة المدينة الراشدة، ثم تجارب الأمويين والعباسيين السياسية والحضارية، كما أن ثقافته الشرعية تقتضي إلمامًا كبيرًا بأصول الفقه، وهو علم المنطق الإسلامي.

كل هذه العناصر المكونة لثقافته، لا يمكن إغفال نصيبها في فكره وفي إبداعه، لا سيما وأنه ظل موصولًا بها، ولم ينقطع عنها، أو يعلن ثورته عليها، بل بقي يتقلب في مناصب القضاء، والإفتاء على الفقه المالكي، حتى أواخر أيام حياته في القاهرة!

(لم يكن محيط ابن خلدون -الذي هو الواقع- عاجزًا عجزًا كليًا، بحيث إنه لم يجد في هذا المحيط أي تراث منهجي، أو مفهومي، يسعفه في تسمية وتحليل الواقع الماثل أمامه) [13].. فهذا الخلاء أو (الفراغ) الكامل، غير ممكن في واقع ينتمي إلى حضارة عظيمة، ذات مصادر ثابتة حاضرة دائمًا كالحضارة الإسلامية!

إن سيادة الفوضى، وضعف الفاعلية، وغياب العقل، وسطحية الارتباط بالمصادر لدى العامة والصفوة، هي العوامل التي تشل الواقع، وتجهض محاولات بعثه، حتى ولو كان المجتمع مكدسًا بالتراث الثري، والمفاهيم الفاعلة.

إنَّ (الإرسال) موجود وقوي، لكن (الاستقبال) ضعيف وراكد!!

وكانت أكبر المعيقات، التي يواجهها ابن خلدون، تتمثل في ضغط هذا الواقع، وكان في حاجة ماسة إلى الفرصة التي يستطيع فيها الخروج من هذا الواقع وتجاوزه، وبالتالي رصده بطريقة منهجية تنظيرية في ضوء رصيده الثقافي، وثوابته الحضارية، ومعطيات الواقع أيضًا.

وعندما جاد اللهُ عليه بالعُزلة في قلعة بني سلامة، وجدت الأفكار المختزنة فرصتها للبروز، فكان أن ولدت (مقدمة ابن خلدون)، كاملة الأعضاء، واضحة القسمات.. إنها لم تكن ثمرة هذه البيئة الراكدة، بل كانت نبتة شرعية لمصادر عظيمة، وموروث ثقافي، وحضاري كبير!!



المراجع :


 

8- عمر الطباع: ابن خلدون في سيرته وفلسفته، مؤسسة المعارف – بيروت، ط1، ص 39.
9-
ابن خلدون: التعريف، ص244.
10-
عبد الرحمن بدوي، مؤلفات ابن خلدون، دار المعارف- مصر 1966م، ص34- 36.
11-
ابن خلدون: التعريف، ص164.
12-
ابن خلدون: التعريف، ص388. وما بعدها .
13-
سالم حميش: الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ، مجلة الاجتهاد، عدد 22، 1414ه - بيروت .