مِنْ قَصَصِ أئمةِ الحَدِيثِ المُتقدّمين وَنوادرِهم في تتبعِ سُنّةِ سيّدِ المُرْسلين والذبِّ عنها
تأليفُ
د.علي بن عبد الله الصّياح
القصة الثانية
-2- رفسةٌ أحبّ مِنْ سَفرة !
قَالَ الخطيبُ البغداديُّ : ((يحيى بنُ معين ..أبو زكريا البغدادي ، إمامُ الجرح و التعديل ، و أحدُ من انتهى إليه علم الحَدِيث في عصرهِ، قَالَ: كتبتُ بيدي ألْف ألْف حَدِيث... و ذكر ابنُ عدي أنَّ والد يحيى خلّفَ له ثروةً ضخمةً ألْف ألْف درهم ، و خمسين ألْف درهم ، فأنفق ذلكَ كله على الحديثِ لمّا توسع في طلبهِ و رحلاته من أجله .
و مِنْ لطائف أخبارِ رَحَلاته هذه الرحلة التي سَافرَ فيها مع صديقهِ الأمام أحمد بن حنبل من العراق إلى اليمن للسماع من الأمام عبدِ الرزاق بن همّام الصنعاني - حافظ اليمن - ، وفي العودةِ أرَادَ أنْ يدخلَ الكوفةَ ليختبر الحافظ أبا نُعَيم الفضلَ بنَ دُكين و يعرفَ حفظَه و تيقظه و نباهته ، و كان يرافقهما في هذه الرحلة أحمدُ بنُ منصور الرّمادي الثقة و هذا نصه يروي قصة هذا الاختبار .
قَالَ أحمدُ بنُ منصور الرّمادي: خرجتُ مَعَ أحمد ويحيى إلى عبدِ الرزاق أخدمهما . فلمّا عُدنا إلى الكوفة قَالَ يحيى بنُ معين : أريد أختبر أبا نُعَيم .
فَقَالَ له أحمد : لا تُرِدْ ، الرجلُ ثقة .
فَقَالَ يحيى: لابدَّ لي، فأخَذَ ورقةً وَكَتَبَ فيها ثلاثين حديثاً مِنْ حَدِيث أبي نُعَيم، وجَعَلَ عَلى رأسِ كلّ عشرة منها حديثاً ليسَ مِنْ حديثهِ، ثمّ جاءوا إلى أبي نُعَيم فَخَرَج وَجَلَسَ عَلى دُكّان .
فأخرجَ يحيى الطَّبَق فَقَرَأ عليه عشرةً، ثم قرأ الحادي عشر، فَقَالَ أبو نُعَيم : ليسَ مِنْ حديثي اضربْ عليه، ثم قَرَأ العشر الثاني، وأبو نُعَيم ساكتٌ فَقَرأ الحَدِيث الثاني فَقَالَ: ليسَ مِنْ حديثي، اضربْ عليه، ثم قَرَأ العشر الثالث و قَرَأ الحديثَ الثالثَ فَتَغَيرَ أبو نُعَيم، وَانقلبتْ عيناهُ وأقبلَ على يحيى فَقَالَ: أمَّا هذا - وذراعُ أحمد في يدهِ - فأورع من أنْ يعملَ هذا، وأمّا هذا - يريدني - فأقلّ من أنْ يعملَ هذا، ولكن هذا مِنْ فعلكَ يا فاعل، ثمّ أخرجَ رجلَه فَرَفَسهُ فَرَمى بهِ، وقَامَ فَدَخَلَ دَارهُ، فَقَالَ أحمد ليحيى : ألم أقلْ لكَ إنّه ثَبتٌ قَالَ : واللهِ لرفستُهُ أحبُّ إليّ مِنْ سفرتي)).
وفي روايةٍ أنَّ يحيى بنَ معين قامَ وقبله وقالَ : (( جزاكَ اللهُ خيراً، مِثلُكَ منْ يُحدث ، إنَّمَا أردتُ أنْ أجرّبكَ))([1]).
وأبو نُعَيم هذا هو الذي قَالَ للوالي في محنة خلق القرآن :((عُنُقي أهونُ عِندي من زِرِّي)) وإليكَ القصة بتمامِها:
قَالَ أبو بكر بنُ أبي شيبة: لمَّا أنْ جاءتْ المحنة – محنة خلق القرآن -إلى الكوفة قَالَ لي أحمدُ بنُ يونس: ألق أبا نعيم فقلْ له، فلقيتُ أبا نُعَيم فقلتُ له، فَقَالَ: إنما هو ضربُ الأسياط، فلمّا أُدْخل أبو نُعَيم على الوالي ليمتحنه وعنده ابنُ أبي حنيفة وأحمدُ بنُ يونس وأبو غسان وعداد فأولُ مَنْ امتحن ابن أبي حنيفة فأجاب، ثم عَطَفَ على أبي نُعَيم فقيل له، فَقَالَ: أدركتُ الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ الأعمش فما دونه يقولون: القرآنُ كلامُ اللهِ، وعنقي أهونُ عِندي مِنْ زِرِّي هذا، ثم أخذ زرهُ فَقَطَعه، فَقَامَ إليهِ أحمدُ بنُ يونس فَقَبّلَ رأسَهُ ، وكَانَ بينهما شحناء، وقَالَ: جزاكَ الله مِنْ شيخ. ([2])
([1])الرحلة في طلب الحَدِيث ( ص: 207)، المجروحين (1/33)، تاريخ بغداد (12/353)، الجامع لأخلاق الراوي (1/136).
وفي هذه القصة فوائد حديثية وتربوية فمن ذلك:
-بيان إحدى طرق النقاد لمعرفة ضبط الرواة وهي:إدخال الحديث على الراوي.
-وتشدد ابن معين في معرفة الرواة وضبطهم فهو يريد أن يصل إلى الطمأنينة التامة.
- وتحمل المحدثين لما يحصل لهم من رفسٍ وغيره في سبيل خدمة حديث رسول الله r، فالرفسة تكون محببة إليهم- أحياناً ! رحمهم الله -.
وأنبه أنّ مثل هذه الفوائد ليست مستنبطة من هذه القصة فقط بل لها نظائر كثيرة فلا يظن ظان أنه بمجرد أن تستنبط فائدة من "سير المتقدمين وقصصهم" تجعل هذه الفائدة قاعدةً مطردةًَ للمحدثين كلّهم، هذا لا يقوله أحدٌ بل مثل هذه الفوائد لجعلها قاعدة أو قرينة أو منهجاً لا بدّ من الاستقراء والتتبع ثم النظر والتحليل والموازنة.