الأحد، 5 يناير 2014

(¯`*•أهـل الشام•*´¯) الفوائد لابن القيم ( [72] (فائدة جليلة) ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي - الجزء الأول )

 

 




الفوائد

                                              

 

للإمام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب

الزرعي المعروف بابن القيّم

 

 

تحقيق

 

ماهر منصور عبد الرزاق                    كمال علي الجمل

مدرّس الحديث وعلومه                     مدرّس الحديث المساعد

 

جامعة الأزهر

 

 

 

 

[72] (فائدة جليلة) ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي - الجزء الأول

 

 

قال سهل بن عبد الله : ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي, لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه, و إبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب

عليه .

 

قلت هي مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي, وذلك من وجوه عديدة :

 

(الوجه الأول) : ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس .

 

(الوجه الثاني): ان ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة, وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة, و "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر", ويدخلها من مات على التوحيد وان زنى وسرق .

 

(الوجه الثالث): إن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي , كما دل على ذلك النصوص  كقوله صلى الله عليه و سلم : " أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها" أخرجه البخاري في المواقيت 2\12 رقم 527, ومسلم في الإيمان 1\89 90 رقم 137-140. و قوله : ألا أنبئكم بخير  أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم , وخير لكم من إنفاق الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقو عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "ذكر الله" ,أخرجه الترمذي في الدعوات 5\428 (3377), وابن ماجه في الأدب 2\1245 (3790) ومالك في الموطأ كتاب القرآن 11\211(24) . و قوله : "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة", أخرجه ابن ماجه برقم (277) والدرامي برقم661, وأحمد 2\276 277. وغير ذلك من النصوص .

 

و ترك المناهي عمل فانه كف النفس عن الفعل, ولهذا علّق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا}, الصف 4, {والله يحب المحسنين}آل عمران 134, وقوله:{ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}الحجرات 9, {والله يحب الصابرين} آل عمران 146.

 

أما في جانب المنهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة كقوله: { والله لا بحب الفساد }البقرة 205, وقوله: { والله لا يحب كل مختال فخور} الحديد23, وقوله: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} البقرة 190, وقوله : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }النساء 148,وقوله:{ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } النساء 36 .

 

وأخبر في موقع آخر أنه يكرهها ويسخطها, كقوله : {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها} الإسراء 38, وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله} محمد 28.

 

إذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات. ولهذا يقدر ما يكرهه و يسخطه لإفضائه إلى ما يحب, كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء . وحصول التوبة من العبد والتضرّع إليه والاستكانة وإظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه. وحصول الموالاة والمعاداة لأجله, وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره لما يكره أحب إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها, وهو سبحانه لا يقد ما يحب لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه, فعلم أن فعل ما يحبه أحب إليه مما يكرهه .

 

يوضحه الوجه الرابع: إن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور, فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه, كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة كما قال تعالى في الآية 91 من سورة المائدة , فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها, فالنهي عنها من باب المقصود لغيره, والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه .

يوضحه الوجه الخامس: إن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان ويخرجها عن الاعتدال, وحفظ القوة مقدم على الحمية, فان القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة, فالحمية مرادة لغيرها وهي حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها, ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها , وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة . فتأمل هذا الوجه .

 

الوجه السادس : إن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه, وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيء من ذلك, فانه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها ولم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا مخلدا في النار .

 

و هذا يتبين بالوجه السابع : إن من فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج إن غلبت حسناته سيئاته, وأما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله إلى النجاة وذلك بفعل المأمور.

 

و من ترك المأمورات و المنهيات فهو هالك غير ناج و لا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد .

فان قيل : فهو إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك , قيل : يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به و إن لم يأت بضد وجودي في الشرك , بل متى خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وان لم يعبد معه غيره, فإذا انضاف إليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به و فعل الشرك المنهي عنه .

 

يوضحه الوجه الثامن : أن المدعو إلى الإيمان إذا قال : لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره , كان كافرا بمجرد الترك والأعراض , بخلاف ما إذا قال : أنا أصدق الرسول و أحبه و أؤمن به و أفعل ما أمرني , و لكن شهوتي و إرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني الله عنه و أنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر لي عنه , فهذا لا يعد بذلك كافرا , و لا حكمه حكم الأول ؛ فان هذا مطيع من وجه , و تارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه .

يوضحه الوجه التاسع : إن الطاعة و المعصية إنما تتعلق بالأمر أصلا , و بالنهي تبعا , فالمطيع ممتثل المأمور , و العاصي تارك المأمور , قال تعالى :{لا يعصون الله ما أمرهم} التحريم 6 , و قال موسى لأخيه : {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألاّ تتبعن أفعصيت أمري} طه 92 93.

 

و قال عمرو بن العاص عند موته : أنا الذي أمرتني فعصيت , ولكن لا اله إلا أنت .

 

و قال الشاعر:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

و المقصود من إرسال الرسل إطاعة المرسل ولا تحصل إلا بامتثال أوامره , واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر و لوازمه . و لهذا لو اجتنب المناهي ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا , بخلاف ما لو أتى المأمورات وارتكب المناهي. فانه وان عد عاصيا مذنبا فانه مطيع بامتثال الأمر, عاص بارتكاب النهي بخلاف الأمر فانه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة .

 

الوجه العاشر: أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة, وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى : { وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} الذاريات56, فأخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة , وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه . فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فانه أمر عدمي لا كما لفيه من حيث هو عدم , بخلاف امتثال المأمور فانه أمر وجودي مطلوب

الحصول .

 

وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر : وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي, والمطلوب بالأمر إيجاد فعل وهو أمر وجودي , فمتعلق الأمر بالإيجاد , ومتعلق النهي الإعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه إلا إذا تضمّن أمرا وجوديا , فان العدم من حيث هو عدم لا كمال فيه ولا مصلحة إلا إذا تضمن أمرا وجوديا مطلقا , و ذلك الأمر الوجودي مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهي إلى الأمر , و أن المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجودي المطلوب به .

 

و هذا يتضح بالوجه الثاني عشر : وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال :

 

أحدها: أن المطلوب به كف النفس عن الفعل , وحبسها عنه , و هو أمر وجودي . قالوا : لأن التكليف انما يتعلق بالمقدور , و العدم المحض غير مقدور . و هذا قول الجمهور .

 

وقال أبو هاشم وغيره : بل المطلوب عدم الفعل , و لهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم , و إن لم يخطر بباله فعل , فضلا أن يقصد الكف عنه , و لو كان المطلوب الكف لكان عاصيا إذ لم يأت به , و لأن الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه . وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر( صاحب كتاب إعجاز القرآن) و لأجله التزم إن عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الكسب , قال: والمقصود بالنهي الإبقاء على العدم الأصلي وهو مقدور .

 

و قالت طائفة : المطلوب بالنهي فعل الضد فانه هو المقدور وهو المقصود للناهي , فانه إنما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها , و نهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به , وعن الكذب طلبا للصدوق المأمور به و هكذا جميع المنهيات . فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه , فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور .

 

و التحقيق أن المطلوب نوعان : مطلوب لنفسه وهو المأمور به , و مطلوب إعدامه لمضدته المأمور به و هو المنهي عنه , لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به . فإذا لم يخطر بباله المكلف ولا دعته نفسه إليه بل استمر على العدم الأصلي لم يثب على تركه, وان خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيارا أثيب على كف نفسه و امتناعه , فانه فعل وجودي .

 

و الثواب إنما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحض و إن تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا, فهذا وان لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب على عزمه وإرادته الجازمة التي إنما تخلف مرادها عجزا .

 

و قد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فلا يلتفت إلى ما خالفه, كقوله تعالى : { وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} البقرة 284.

 

و قوله في كاتم الشهادة : { فانه آثم قلبه} البقرة283, و قوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} البقرة225, وقوله : { يوم تبلى السرائر} الطارق 9 .