*«بئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ: زعموا»*
لا شك أنه في وقت الفتن تنشط الدعاية وتكثر الإِثارة وهنا يأتي دور الإِشاعة؛ فكان التثبت من الخبر مطلب شرعي.
الواجب على المسلم أن يتثبت مما ينقله؛ فلا يفرح بسماع شيء قبل التأكد منه، وهذا هو منهج الإسلام في نقل المعلومات، وقد حذر الشارع الحكيم أشد التحذير من نقل الشخص لكل ما يسمعه؛ لما له من وقع في نفوس الناس، وما تحدثه من عواقب قد لا تحمد عقباها؛ فعن حفص بن عاصم أن النبي ﷺ قال: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم. وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) السلسلة الصحيحة. قَالَ النَّوَوِيّ: "فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَالْكَذِب الإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلا يُشْتَرَط فِيهِ التَّعَمُّد".
وعن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ قال: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) رواه البخاري.
(وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ): في معناها ثلاثة أوجه:
أولها: الإِشَارَة إِلَى كَرَاهَة كَثْرَة الْكَلام لأَنَّهَا تُؤَوِّل إِلَى الْخَطَأ.
ثَانِيهَا: إِرَادَة حِكَايَة أَقَاوِيل النَّاس وَالْبَحْث عَنْهَا لِيُخْبِر عَنْهَا فَيَقُول: قَالَ فُلان كَذَا وَقِيلَ كَذَا، وَالنَّهْي عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الاسْتِكْثَار مِنْهُ، وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ وَهُوَ مَا يَكْرَههُ الْمَحْكِيّ عَنْهُ.
ثَالِثهَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي حِكَايَة الاخْتِلاف فِي أُمُور الدِّين كَقَوْلِهِ: قَالَ فُلان كَذَا وَقَالَ فُلان كَذَا، وَمَحَلّ كَرَاهَة ذَلِكَ أَنْ يُكْثِر مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يُؤْمَن مَعَ الإِكْثَار مِنْ الزَّلَل، وَهُوَ مَخْصُوص بِمَنْ يَنْقُل ذَلِكَ مِنْ غَيْر تَثَبُّت، وَلَكِنْ يُقَلِّد مَنْ سَمِعَهُ وَلا يَحْتَاط لَهُ. قُلْت: وَيُؤَيِّد ذَلِكَ الْحَدِيث الصَّحِيح (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم).
وفي السلسلة الصحيحة قال أبو مسعود لأبي عبد الله، أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله ﷺ يقول في زعموا؟ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: (بئس مطيَّةُ الرجل: زعموا).
الْمَطِيَّة: الْمَرْكُوب، والزَّعْم: قَرِيب مِنْ الظَّنّ، والمعنى: أَسْوَأ عَادَة لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذ لَفْظ "زَعَمُوا" مَرْكَبًا إِلَى مَقَاصِده؛ فَيُخْبِر عَنْ أَمْر تَقْلِيدًا مِنْ غَيْر تَثَبُّت؛ فَيُخْطِئ وَيُجَرَّب عَلَيْهِ الْكَذِب، ويَنتُجُ عن ذلك مفاسِدُ كثيرَةٌ، وتخَبُّطٍ في المجتمَعِ.
ولذلك حرص سلفنا الصالح على التثبت والحذر من الإشاعات، قال عمر رضي الله عنه: "إياكم والفتن؛ فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف".