_*النعم مجبولة بالكدر••إنها الدنيا*_
خلق الله ﷻ هذه الدنيا وجعلها دارَ ابتلاء وامتحان، يبتلي فيها الخلقَ بألوان من البلاء والاختبارات، في السرَّاء والضراء، في المَنْشَط والمكره؛ فكلِّ ما يصيبهم وينزل بهم بلاء *{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}*.
وجعل الله ﷻ هذه الدنيا على هذا النحو؛ ليذكر الإنسان أنه ليس في دار مقام، ولا في دار نزولٍ لا ارتحال بعده، إنما هي دار زائلة، سريعة الارتحال والانتقال، دارٌ كثيرةٌ آلامُها، عديدةٌ همومُها وغمومها، أسبابُ القلق والضجر فيها أكثرُ من أسباب الانشراح والسعادة والقرار.
ويتمايز الناس ويختلفون في تعاملهم ومقابلتهم الضيق والكدر المحيط بهم؛ فمنهم من يستسلم لهذه الأنكاد والأكدار والغُصَص، ومنهم من يُحسن التعاطيَ معها بتخفيف آثارِها وتجاوزِ آثامها وتخطِّي عقباتها؛ ليبلغ حياةٍ السعادة والطمأنينة.
*فالمؤمن الذي يُبصِر* قضاءَ الله تعالى وقدره، ويرى صنيع ربه، وأنه لا يقدِّم له إلا الخير، وأن ألواناً من الضيق تثمر خيراً عظيماً، ولو لم يكن له فيها إلا حطُّ السيئات ووضع الخطايا والأوزار، وما أثقل الكاهل من الذنوب والخطيئات؛ لكان ذلك كافياً في أن يلتمس مسرة في مضرة، وأن يلمح رحمة في نقمة، وأن يرى مِنَّة في نازلةٍ ومصيبة.
فمن وطَّن نفسه على مقابلة ما يكره في هذه الدنيا، وأنها لا تكون على ما يحبُّ في كل حال ومقام، بل لا بد من كَدَر، ولا بد من ضيق، ولا بد من مخالفة ما يشتهيه ويحبُّه؛ كان ذلك من أعون ما يُهيئ نفسه على مقابلة ما يكره في نفسه، ماله، ولده، أهله، وظيفته، في دنياه كلها، يأمل خيراً ويكون مستعدًّا لما ينزل به من الأزمات والضوائق، فما منَّا إلا وله من الكدر ما ينغِّص حياته.
إذا أنت لم تشرب مِراراً على القذى
••ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربه؟!
*وخير ما يُعطاه الإنسان لمواجهة ما يكره في هذه الدنيا:* الصبر؛ فبالصبر يتخطى المسلم الأهوال والصعاب، قال ﷺ: «وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً ولا أوسعَ من الصبر»؛ فخير ما تُعطاه أن تعطى نفساً صبورةً، تصبر على المكارة فتقابلها بثبات، وتوقن أن لا بقاء لشقاء، ومن يتصبَّر يصبِّرْه الله، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يتمثل كثيراً بهذين البيتين:
طبعت على كدر وأنت تريدها
••صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
••متطلب في الماء جذوة نار
ولقد ناله من الكدر ما لم ينله أحد من الناس إلا قليلا، لكن هذا الكدر الذي ناله رحمه الله صار صفواً؛ فصار إماماً للناس إلى يومنا هذا، والناس يقتدون به، ويقولون بأقواله.
*هذه هي الدنيا..*
ولقد تولت بعد عن أصحابها
••فالسعد منها حل بالدبران
لا يرتجى منها الوفاء لصبها
••أين الوفا من غادر خوان؟!
طبعت على كدر فكيف ينالها
••صفو أهذا قط في الإمكان؟!
والجواب: لا يمكن للغادر الخوان أن يفي لك، وما دامت طبيعة هذه الدنيا الكدر؛ فلا تصفو.