((موعد مع الملك:-))
هذه كلمات بسيطة أذكّركم فيها بالمشهد العظيم الذي ستنتقلون إليه!
يوم عرفة!
يوم أن يباهي الملك سبحانه وتعالى بهؤلاء الخلق الذين أتوا إليه طائعين منكسرين منذلين!
أول مقاصد هذا الحج كما تعلمون: التقوى، وكلنا نحفظ
قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
ونحفظ أيضًا أول سورة الحج الذي وصف فيها الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا} ماذا تفعل؟ {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} المحشر العظيم الأكبر صورته الصغرى هي الحج .
لذلك أول سورة الحج أتت ثلاث كلمات:
1. اتَّقُوا
2. رَبَّكُمْ
3. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
هي نفس هذه الكلمات التي ستكون طريقك هنا في الحج،
فمطلوب منك أن تتقي.
التقوى لها عمودان:
1. معرفة الرب
2. وذكر الدار الآخرة
إذا عرف العبد ربه وبقي في باله لقاء ربه في الآخرة؛ لابد تكون النتيجة أنه سيتقي ربه.
من اليوم إلى عشية عرفة تحتاج أن تجمع قلبك على الأمرين، سنتكلم عن أحد أعظم أسمائه سبحانه وتعالى، وهذا الاسم نردده دائمًا في سورة الناس,
قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} وأنتِ الآن مدعوّة من الملك!
اللقاء بهذا الملك سبحانه سيكون عشية عرفة, بعدما نصلي الظهر والعصر، سينزل الملك إلى السماء الدنيا! ثم ينظر إلى عبيده، ينظر إلى قلوبهم وليس إلى أبدانهم!
فإذا رأى قلوب خاشعة منكسرة ذليلة، باهى بها الملائكة!!
فمَن الملك الذي سنلقاه؟!
هذا الملك وَصَف نفسه في آيات كثيرة، ومِن أعظم المواطن آية سورة الحشر,
يقول الله تعالى عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
لماذا لا إله إلا الله؟ لأنه الملك سبحانه.
الإله
يعني تؤلّهه القلوب وتحبّه وتعظّمه, الألوهية أتت مِن الوله: شدّة المحبة مع شدة التعظيم,
لماذا لا إله إلا الله, لماذا لا أحب ولا أعظم إلا الله, لماذا أملأ قلبي بمحبة الله وتعظيمه ثم أضع (لا) حارسة على قلبي؟
لأن الله لا مثيل له، ملك لا مثيل له.
ما هي وصوفات هذا الملك؟ وصف نفسه بأنه {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}
فانظر إلى صفاته:
القدّوس
يعني كل صفاته صفات كمال، منزّه عن النقص أبدًا، أي أنك عبْد لِمَلِكٍ كل صفاته صفات كمال, لا يأتي الشيطان فيوسوس لك ويقع في قلبك شعور بنقص في صفاته، بل الملك الذي يعاملك قدّوس منزّه عن كل نقص وعيب, وهذا الملك القدوس الذي يعاملك صفاته كلها صفات كمال بل هو
السلام
تعرف السلام الذي تقوله بعد كل صلاة: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ)) يعني يا رب يا ملك أنا أعلم أن كل صفاتك كمال، وكمالك سالم، من أي وجه؟ سلام أن تكون أي صفة كمال فيها نقص.
الخلق بهم صفات كمال، هناك قضاة وصفهم أنهم أهل عدل، لكن هل عدلهم 100%؟ هناك أشخاص بهم صفة الكرم، لكن هل كرمهم 100%؟ لا،
إذن كل الخلق وإن وصفوا بالكمال لكن صفات كمالهم ليست سالمة من النقص.
أما ربك الملك الذي أنت عبد له، قدّوس كل صفاته كمال، وصفات كماله سالمة من أي نقص، فلا يظلم مثقال ذرة!
فأنت في عشية عرفة ستلاقي هذا الملك! الذي هو كامل الصفات
ستلاقي هذا الملك الذي صفاته الكاملة سالمة من كل نقص وعيب
ستلاقي ملكًا مؤمنًا مؤمِّن لعباده من كل خوف
المؤمن
• يؤمّن عباده المخاوف.
• مؤمن مصدّق لعباده كل ما وعدهم:
o قال لنا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فلو دعوته لا بد أن الملك سيستجيب لك.
o قال: {ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} فلو شكرته لا بد أن الملك سيزيدك.
o قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} إن اتقيته لا بد يجعل لك مخرجا! لهذا يقول ابن عباس: "لو انطبقت السماء على الأرض يجد المتقي بابًا يخرج منه!" لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}.
هذا مِن تمام إيمانك أنه مَلِكٌ مُؤمِنٌ، يؤمِّنك من كل المخاوف, مَلِكٌ مَؤمِنٌ مُصدِّقٌ لنفسه مصدِّقٌ لوعده، إذا وعدك هذا الملك لا يخلف وعده أبدًا .
فأنت في عشية عرفة موعدك مع اللقاء بهذا الملك!
فاستعدّ بكل ما تعلمه من وصفه أنه إذا وعدك لا يخلف، فإذا دعوته وهو وعدك بالإجابة أبدًا لا تظن فيه سوءًا، لا بد أن يجيبك ولو بعد حين, بل إنه يقدّر من الأقدار ألطفها ليأتي مرادك وأنت في أحسن حال!
ألا ترى يوسف عليه السلام وأباه يعقوب لما رأى الرؤية، أتت هذه الرؤية في أحسن حال لهم كلهم؟! فهذا ربك اللطيف الخبير، هذا الملك الذي يدبّر الأمور من أجل أن يصل إليك الخير, الملك الذي أنت على موعد معه ما وصفه؟
المهيمن
يعلم خفاياك، قد لا تنطق بما تريد، لكنه ينظر إليك وإلى ما قام في قلبك، ولهذا إذا علمت أن الملك لا ينظر إلى ظاهرك، {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} في قلوبكم {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} هذا الملك الذي تعامله لا ينظر إلى لونك، لا لمستواك الاجتماعي، ولا لمستواك الثقافي، إنما ينظر إلى ما قام في قلبك، فلما تذهب للقاء الملك لا تطهّر قدر ما تطهّر قلبك، ولهذا اعمل أعمالاً واستغفر استغفارًا ولبِّ تلبية وكبّر تكبيرًا؛ ليطهر قلبك، ليدخل الإيمان, فلمّا تلقاه ينظر إلى قلبك وهو خالٍ!
ولهذا من أعظم الاستعدادات لعشية عرفة ( التوبة ) كرّر التوبة كرّرها، ولينظر الله عز وجل إلى قلب -وهو الملك المهيمن- ينظر إلى خفايا قلبك وأنت لا تبطن إلا إرادة رضاه!
ألسنا طفنا حول الكعبة وسعينا؟ طُف بقلبك حول رضاه، واسعَ جاهدًا إلى هذا الرضا, اسعَ بكل ما تملك، عِدْهُ أنك إذا عُدتَ إلى بلدك تكون من أهل التقوى، فهو أهل التقوى، فهو أهلٌ يستحقّ أن تتقي مساخطه؛ هو أهلٌ أن يقع في قلبك الخوف أن تفعل فعلاً فلا يرضاه.
انظر لنفسك عندما تحب أحدًا، ألست تبغض أن تفعل فعلاً فتسقط من عينه؟ الله عز وجل أهلٌ للتقوى، أهلٌ أن تخاف أن تفعل فعلاً فيغضب عليك، فتخرج مِن حمى الملك! وإذا خرجت من حمى الملك إلى حمى من ستخرج؟! لن ينفعك أحد، ليس لك إلا الله.
فإذا بلغت – نسأل الله أن يبلغنا أجمعين ونحن في أحسن حال في قلوبنا - عشية عرفة
o استعدّ لها، ((تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))
o استعدّ لعشية عرفة بأن تطهّر؛ قلبك لأن الملك الذي ستلقاه مهيمن مطلع على الخفايا، مطلع على الخبايا، مطلع على ما في قلبك، لا ينظر إلى ظاهرك، ينظر إلى ما قام في القلب ((ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ))، ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ))
فطهّر القلب الذي هو محط نظر الرب.
لا تذهب لتقابل الملك وأنت ظاهرك حسن وباطنك فيه من سوء الظن بالله! من سوء الظن بالخلق! من الأحقاد من الأغلال! لا تذهب وأنت بهذه الصورة، إنما طهر قلبك لله، فأنت على لقاء بالملك المهيمن. وهذا الملك سبحانه وتعالى المهيمن
العزيز
من هذا الذي بيده أن ينفع الله أو يضره؟! إذا ذهبت إلى لقائه لا تظن أنك تكثّر الجمع، فالله عز وجل له ملائكة يطوفون حول البيت العتيق، حول البيت المعمور في السماء يدخل هذا البيت المعمور كم؟ سبعون ألف كل يوم لا يعودون إليه مرة أخرى!! فالله عز وجل غني عن عبادتك، أنت الفقير إليه.
ألا ترى موسى استقر تحت الشجرة فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فأعاده الله إلى دياره معه الزوج والأبناء!
فأظهر فقرك للملك، فإذا كان هو الملك فنحن العبيد، لا بد أن نشعر بالذلّ والانكسار إليه والحاجة إلى الملك، وإذا لم تُظهر ذُلّك وانكسارك لملك هذا صفاته لابد {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} لابد أنك على أبواب العبيد ستقف وستتلقى منهم الإهانات! لأنه {مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}، أما عزّك وفخرك فأن تكون عبدًا كسيرًا منذلا بين يدي الملك, الملك المهيمن العزيز الذي لا يبلغ أحد من الخلق نفعه فينفعه، ولا يبلغ أحد من الخلق ضرّه فيضرّه، من هذا الذي نفع ربه من هذا؟! كل العباد إليه فقراء, وهو سبحانه وتعالى عن كل العباد غني، مأدبته سبحانه وتعالى صنعها وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم داعيًا إليها، فالجنة مأدبته والنبي صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى هذه المأدبة، والخسران هو من ترك باب الوصول إلى هذه المأدبة!
فإذا عرفت مَن ستلقى، مِنْ المؤكد أنك ستستعد؛ لأنه إذا قيل لكم الملك يريدكم أو الأمير يريدكم غدًا، كيف تبيتون ليلتكم؟ لن تناموا! مضطربين ماذا سنقول ماذا يريد..؟!
فإذا كان ملك الملوك وعدكم في هذه العشية اللقاء، فكيف ستستعد القلوب وهي منتقلة تقول: لبيك لبيك أنا مستجيب!
ثم إن لبيك هذه ليست أي كلمة، لبيك هذه لا تقولينها إلا لمن تحبين، فهي تجمع ثلاثة مفاهيم عظيمة:
1. المحبة
2. والانقياد
3. والاستجابة
يعني أنا أحبك، وأي أمْر تأمرني به فأنا مستجيبة، أتيت لندائك يارب وأنا محبة مستجيبة منقادة، أعدك أن أبقى على طاعتك. لا أستجيب هذه الاستجابة ثم أنتكس.
فلذلك عندما تقرأ في سورة الحج قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} يعني كان بإيمانه محفوظ في السماء، فلما يتشتت قلبه ويتمزع {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
ولذلك احذر ثم احذر ثم احذر! أن تأتي عشية يوم عرفة وأنت لم تعرف الملك الذي سوف تلقاه! أو قلبك مشتت مع العبيد! لأنه كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة الزمر {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ضرب لنا مثل عجيب, ضرب لنا مثل لعبدين:
1. واحد له شركاء متشاكسون، كان العرب يشتري مجموعة رجال عبدًا واحدًا، يعني ساداته عشرة تقريبًا، وهؤلاء العشرة على رأي واحد أم متشاكسون؟ متشاكسون، يرضي هذا ويغضب هذا، يرضي هذا يغضب ذاك!
2. وعبد ثاني لسيد واحد.
ثم يسألك ربنا: هل يستويان؟ ماذا ستجيب؟ لا يستويان لذلك بعدها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فكأنه يقال لك: أنت عندما تلقى ربك الملك
1) إما أنك تكون عبدًا فيه شركاء متشاكسون في تلك العشية (تلفونات ومكالمات وتذهب لهذا وتكلم هذا وتشاور هذا وتفكر في كذا..) إما يكون قلبك فيه شركاء متشاكسون أمزاعًا أمزاعًا
2) وإما أنك تكون لواحد، لملك واحد.
فاحذر أن تذهب هذه العشية وأنت من صنف الشركاء المتشاكسين، عبدًا للشركاء المتشاكسين، واجعل نفسك في تلك العشية قلبًا مجموعًا على ملك واحد، إذا كان الله هو الملك فمن نحن؟ العبيد, إذا كان الله هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الذي لا حاجة له بعبادتنا، نحن نكون العبيد الفقراء المنكسرين بين يديه, ثم اعلم أن هذا الملك:
الجبّار
إذا انكسر قلبك من الجبّارين جبرك وقصمهم! فهو وحده جبّار القلوب، فكلنا جئنا بآلامنا وأحزاننا ونقائصنا، لا تطرق بابًا غير بابه، لا تسأل أحد جبرًا لقلبك ولا جبرًا لكسرك، ما يجبرك إلا الجبار! ولو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يقصموك، قصمهم الجبّار سبحانه وتعالى, فماذا تريد؟! ألا تريد ركنًا شديدًا؟! ليس هنالك ركن شديد إلا ركن الملك الذي تعرفه وتردّد اسمه وتقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}. ألست تقول أنه صمدك وملجؤك ومولاك؟!
ألست تكرر على نفسك أنه وحده لا شريك له أنت أتيت ملبيًا له؟ يعني لا تقول كلامًا بلسانك وهو غير موجود بجنانك، أنت تقول ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ)) لم يأتِ قلبي لأحد غيرك.
لا تطوف وأنت تفكر في فلان وفلان! ولا يكن طوافك –خاصة طواف الوداع الذي فيه المشاكل!– تطوف وأنت تفكر في الطيارة وفي السيارة وفي الهدايا في فلان!! لا، طُف وأنت تدور حول رضاه، قلبك معلق به، طواف الإفاضة هذا من المفترض أن يكون مختلفًا عن طواف القدوم، مختلفًا عن طواف العمرة؛ لأنك قابلت الملك!
قابلت الملك في الحِل في عرفة، فكأنك وقفت خارج باب الملك، فأنت تقف عند بابه تطلبه يباهي بك وأنت آتي طاهر القلب.
ثم أذِن لك بالازدلاف بالقُرْب فدخلت مزدلفة.
ثم ذهبت إلى مِنى مكان الْمُنى! فماذا فعلت؟ أرقت الدِّماء تقربًا إليه سبحانه.
ثم أذِن لك بعد هذا الطُّهر أن تطوف حول بيته، أن تسعى طلبًا لرضاه، فلا بد أن يكون طواف الإفاضة مختلفًا عن طواف القدوم.
يوم العيد الذي هو اليوم العاشر هذا أعظم أيام الدنيا, ((أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ))، نأكل ونشرب لكي نذكر ربنا، لكي نتقوّى، وكأنّ عبدًا قابل الملك فرضي عنه فقرّبه فسمح له بالقرب، فلما اقترب سمح له بأن يأكل ويشرب ويتهنأ.
انظري لأهل الجنة -نسأل الله العظيم من فضله- يدخلون الجنة ضُحًى، كما أن أهل الموقف يَصِلون مِنى ضُحًى! يعني أننا لو اتبعنا السنة وبِتْنا في مزدلفة ودعونا حتى يُسفر جدًا، لا نصل منى إلا ضحى، وضحى هذا موعد دخول أهل الجنة –نسأل الله من فضله- للجنة.
ثم إن أهل الجنة يفعلون هذه الثلاثة أفعال: يأكلون، يشربون، يذكرون، يفعلون هذه الأفعال الثلاثة، بل إنهم يُلهمون الذكر كما يُلهمون النَفَس!
فكن في هذا اليوم العظيم الذي هو اليوم العاشر أكثر ذكرًا من ذي قبل، لا نفعل كما نفعل في رمضان عندما يقولون لنا أن ليلة سبعة وعشرين أرجى ليلة للقدر، فيقومون الناس إلى ليلة 27 يعبدون الله وبقية الأيام يتوقفون عن العبادة! هذا يوم العاشر في الحديث ((أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)) يوم القر هو يوم 11 يوم أن نستقر، أكثر عمل في هذا اليوم بقاء لسانك ذاكرًا لاهجًا، فماذا تقول في الذكر واللهج؟ تكبّره وتعظّمه، بعدما قابلت الملك سبحانه القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، بعدما قابلته أكيد أنك علمت أن الملك
المتكبّر
كبير عظيم، متكبّر عن كل نقص، فأكيد بعدما قابلت الملك ستكثر من كلمة الله أكبر؛ لما رأيت من آثار كبريائه سبحانه وتعالى، فكان اليوم العاشر يوم التكبير الذي لا ينفض.
لا تشتغلوا عن الذكر, اعلموا أن الحجاج يقصرون الصلاة ولا يصلون العيد،كل هذا حتى يشتغلوا بمناسك الحج، لا تظن أنه ينتهي حجك عندما تنفر من منى وتخرج، فكثير من المخيمات يقعون في أخطاء، تشغل الحجاج عن العمل العظيم في اليوم العاشر, اليوم العاشر هذا يوم عبادة، يوم ذكر، كل واشرب لا بأس، لكن لا يتوقف لسانك عن تكبيره، عن تعظيمه، قد علمت أن الملك هو المتكبر، المفروض تعود أكثر له ذِكْرًا، أكثر له شُكْرًا، أكثر رِقّةً، أكثر انكسارًا، ذهبت فقابلت الملك، وعدت على يقين أن الملك الذي أنت عبد له ما وصفه؟
قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر، انظري خرجت بـ (متكبّر) آخر اسم، بقي لسانك يكبّره، علمت من هو الملك فبقي لسانك يكبره، اعمل أعمالًا لذاك اليوم.
اليوم نحن في 7، وغدًا 8 إن شاء الله نسأل الله أن يجمعنا أجمعين في جنات النعيم وأن يجعل يوم عرفة على الجميع يوم خير وبركة, استعد من الآن اذكر، لبِّ, إذا كنتم متمتعين فالتلبية ستكون غدًا عندما تذهبون إلى منى، وعليكم بالتكبير التكبير، أما القارن والمفرد فالآن التلبية، قم الليل، سبّح، اجمع أعمالًا من أجل أن يكون الجزاء أن ييسّر الله لك جمع قلبك عشية يوم عرفة, لا تكن متشتتًا بعد ذلك تريد أن تجد نفسك يوم عرفة باكيًا داعيًا ذاكرًا! ثم أكثر في ذلك اليوم من ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
أما هذا الذكر فهو ذكر ودعاء، ما وجه أنه ذكر ودعاء؟ كأنك تقول أنا الآن بين يدي الملك، نضرب هذا المثال:
لو قيل لك: ادخل على الملك واطلب منه أعلى رقم تعرفه، أنت تعرف (مليون), قال لك ماذا تريد؟ قلت له مليون, وآخر أفهم منك دخل عليه وقال له أنا سأطلب منك ما يناسب عظمتك, فأيهما أبلغ في الطلب؟ الثاني.
فهذا مثل وقوفنا عند باب الملك سبحانه، واحد يقول لا إله لي إلا الله أطلبه ولا أسأله ولا أنكسر بين يديه ولا أفتقر إلا إليه، أنا ليس لي غيرك يارب، أعطني بما يناسب عظمتك وحكمتك ووصوف كمالك، هذا في ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، تقول له: أنا أعلم أنه ليس لي إله إلا أنت، وأعلم أنك على كل شيء قدير، وأعلم أنك مطلع على ما قام في قلبي، فأعطني ما يناسبني, وآخر يصف له: يارب بيتي وزوجي وأولادي..! فرق، وهذا لا يمنع، اطلب ما شئت، لكن لا بد أن تعرف الكمال بقاء ماذا؟ قوله: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) لأن هذا فيه اعتراف أنه هو وحده الذي يدلك على الصواب، هو وحده الذي يقدّر لك الخير، هو وحده الذي يعطيك فيبارك لك، يعطيك فلا يفتنك بما أعطاك.
وأما الطمع فهو الطمع في مغفرته سبحانه وتعالى! وأما الطمع فأن تُحسن لنا الخواتيم، وأما الطمع فهو أن نلقى النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض لا نُردّ عنه، وأما الطمع في أن نجاوز الصراط وندخل إلى الجنات ونكون في الفردوس الأعلى -نسأل الله من فضله-.
فاجعل مطامعك عالية، واجمع الدنيا كلها في كلمتين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} اجمع كل الدنيا في هذه كلمتين، وابقَ ذاكرًا لاهجًا مستغفرًا مُثنيًا على الملك، يُذْهلك أنك بين يديه، انظري في سورة الحج ماذا يحصل {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} فكأنه يقال لك في يوم لقاء الملك اذهل عن كل شيء، ولا بد أن يقع في قلبك تعظيمه, لابد أن تكون ممن آمَن بالغيب وعلم يقينًا أنه نزل إلى السماء الدنيا سبحانه في هذه العشية، فترى بعين بصيرتك قُرْبه سبحانه وتعالى وكمال صفاته، ولكن ليس كل قلب يرى! وإنما القلوب تنقسم على قسمين: قلب بصير , وقلب أعمى. والبصر عند الناس متفاوت، فنسأل الله تعالى أن يبصر قلوبنا ويرينا عظمته سبحانه وتعالى في كل شيء ويجمع علينا قلوبنا في ذلك الموقف.
وأخيرا: اختر لنفسك من تكون مِن هؤلاء الأربعة الذين وُصفوا في سورة البقرة في أواخر الكلام عن الحج، وَصَف الله الناس بأربعة أصناف :
1) {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
2) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
3) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
يعني هذا واحد له صورتان صورة أمام الناس طائع محب منكسر وهو من الداخل كذاب .
4) نأتي الآن للصورة الكاملة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}
لن يكلفك فوق طاقتك فاختر لنفسك من تكون من هؤلاء الأربعة في الحج وبعده، واعلم أنه لا بأس بأن تطلب الدنيا بالآخرة لا بأس، ولكن كمّل نفسك بإرادة الآخرة؛ لأن الدنيا كلها غمضة عين، وأكيد أنك تسمع عن موت الفجأة، هذا مات بحادث، هذا مات وهو شاب، هذا مات وهو عريس.. هذه الأخبار لماذا لا تثقب القلوب؟! ونحن نعلم أننا جميعنا طريقنا واحد وإن اختلفت صوره, وليس معنى ذلك أنك لا تطلب الدنيا، اطلب واجمع الدنيا كلها في كلمة واحدة (آتنا في الدنيا حسنة) ثم أبقِ فكرك في الآخرة، ولذلك انظر إلى الثلاث الدعوات {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ثلث، والباقي {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}, ثم رقّي نفسك أن تكون من {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
Sent from my iPhone