ذوقُ الصـــــــــــلاة
عندَ ابن القيم
▫ جمعه د/ عادل عبد الشكور الزرقي ▫
~ أستاذ مشارك للحديث بجامعة الملك سعود بالرياض، وعضو المجلس العالمي لشبكة السنة النبوية ~
سبب القرب
وجعل الصلاة سببًا موصلاً له إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به،
وما بين صلاتين تحدث له الغفلة والجفوة والإعراض والزلات والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحيه عن قربه، ويصير كأنه أجنبي عن العبودية ليس من جملة العبيد،
وربما ألقى بيده إلى أسر العدو فأسره وغله وقيده وجنه في سجن نفسه وهواه, فحظه ضيق الصدر ومعالجة الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولا تدري السبب في ذلك.
فاقتضت رحمة ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة مختلفة الأجزاء والحالات، بحسب اختلاف الأحداث التي جاءت من العبد وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.
طهارة القدوم
فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ويقدم على ربه متطهرًا والوضوء له ظاهر وباطن،
وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله:
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222]
وشرع النبي ﷺ للمتطهر بعد فراغه من الوضوء: أن يتشهد ثم يقول: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» . -صححه الترمذي- فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا.
فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة
فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه إذ يخلص من الإباق بمجيئه إلى داره ومحل عبوديته.
ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.
استقبال القبلة
والعبد كان في حال غفلته كالآبق عن ربه وقد عطل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلِق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه فإذا وقف بين يديه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد استدعى عَطْف سيده عليه وإقباله عليه بعد الإعراض.
وأُمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض،
ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين المستعطف لسيده وألقي بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس خاشع القلب مطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ولا طرفه يمنة ولا يسرة بل قد توجه بقلبه كله إليه وأقبل بكليته عليه.
حقيقة التكبير
ثم كَبَّرَه بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه في التكبير لسانه
فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه،
فإذا اشتغل عن الله بغيره وكان ما اشتغل به أهم عندهم من الله كان تكبيره بلسانه دون قلبه.
فالتكبير:
1- يخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية.
2- ويمنعه من التفات قلبه إلى غير الله.
فإذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء منعه حق قول الله أكبر والقيام بعبودية التكبير عن هاتين الآفتين اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله.
دعاء الاستفتاح
فإذا قال: «سبحانك اللهم وبحمدك» وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب أيضًا بينه وبين الله ، وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمجيدًا ومقدمة بين يدي حاجته،
فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه بحوائجه.
الاستعاذة بالله
فإذا شرع في القراءة قدم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان فإنه أحرص ما يكون على العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته،
فهو أحرص شيء على صرفه عنه واقتطاعه دونه بالبدن والقلب،
فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطله عن القيام بين يدي الرب تعالى،
فأُمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيي قلبه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
ولما علم سبحانه حسد العدو وتفرغه للعبد، وعجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه في صرفه عنه فيكتفي بالاستعاذة مؤنة محاربته ومقاومته،
فكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو فاستعذ بي واستجر بي أكفكه وأمنعك منه.
وقال لي شيخ الإسلام (هو ابن تيمية رحمه الله) قدس الله روحه يومًا:
إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب».
فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُدَ منه فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة (من الأنق وهو الفرح والسرور) وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك, النفس والشيطان،
والنفس منفعلة للشيطان سامعة منه فإذا بعد عنها وطرد لمَّ بها المَلك وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
اللهم ارزقنا لذة الخشوع في الصلاة .. وطيب مناجاتك .. واجعل الصلاة قرة لأعيننا
وصلى اللهم وبارك على النبي محمد ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
جزى الله كل من ساهم في نشر هذا العلم و عَمِلَ به كل خير