ذوقُ الصـــــــــــلاة
عندَ ابن القيم
▫ جمعه د/ عادل عبد الشكور الزرقي ▫
~ أستاذ مشارك للحديث بجامعة الملك سعود بالرياض، وعضو المجلس العالمي لشبكة السنة النبوية ~
القراءة
فإذا أخذ في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو معرض عنه ملتفت إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بين يديه، فجعل يخاطبه الملك وقد ولاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة، فما الظن بمقت الملك لهذا، فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السماوات والأرض.
وليقف عند كل آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له وكأنه سمعه يقول:
حمدني عبدي حين يقول: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقف لحظة ينتظر قوله: «أثنى علي عبدي»
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر قوله: «مجدني عبدي»
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله: «هذا بيني وبين عبدي»
فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر انتظر قوله: «هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل».
طعم الصلاة
ومن ذاق طعم الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلكل عبودية من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها.
الحمد لله ..
فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى فعلاً ووصفًا واسمًا, وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلاً ووصفًا واسمًا,
فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه, منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه،
فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك،
وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال،
وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده وَوُجِدَ بحمده؛
فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، وإرساله رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عمرت بأهلها بحمده، والنار عمرت بأهلها بحمده، وما أطيع إلا بحمده وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يحرك في الكون ذرة إلا بحمده، وهو المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يوحده العباد، والإله الحق وإن لم يؤلهوه،
وهو سبحانه الذي حمد نفسه على لسان القائل: الحمد لله رب العالمين، كما قال النبي ﷺ: «إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده»(رواه مسلم).
فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه وإجراؤه بحمده.
فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد.
ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمد فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده وهلم جرا.
فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه كان ما يجب له من الحمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده.
ومن عبودية العبد شهود العبد لعجزه عن الحمد وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو المحمود عليه إذ هو مجريه على لسانه وقلبه.
ومن عبوديته تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرة وباطنة على ما يحب العبد وما يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة وإن غاب عن شهود العبد.
اللهم لك الحمد حمدا طيبا كثيراً مباركاً فيه يليق بجلال وجه ربنا وعظيم سلطانه
اللهم ارزقنا لذة الخشوع في الصلاة .. وطيب مناجاتك .. واجعل الصلاة قرة لأعيننا
وصلى اللهم وبارك على النبي محمد ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
جزى الله كل من ساهم في نشر هذا العلم و عَمِلَ به كل خير