*أحوال السابقون المقربون*
فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي ..
وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغُمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب. °
قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أُنسهم به ممن سواه.
قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسماءه الحسنى مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته،
• *فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه*،
• وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.
•• فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، ⇦لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
*وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟
قال: أي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة.* °
فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف ولا سكن حتى دخل على ربه في داره ⇦ فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شئون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم،
•• فيأمر فيها بما يشاء، ⇦ فينـزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر،
فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه مقيماً لكل ما سواه •• غنياً عن كل من سواه ⇦ وكل من سواه فقير إليه:
"يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن:29).
*يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويفك عانياً وينصر ضعيفاً ويجبر كسيراً ويغني فقيراً ويميت ويحيي ويسعد ويشقي ويضل ويهدي وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أقواماً ويذل آخرين ويرفع أقواماً ويضع آخرين*.
ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به حيث يقول في الحديث الصحيح:
" يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه. وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع" *صحيح*
فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه، وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاء عدلاً منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، *ليس له بواب فيستأذن ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها*.
*أحاط سبحانه بها علماً ووسعاً قدرة ورحمة، *
فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه.
ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ذلك بأنه الغني الجواد الماجد، *فعطاؤه كلام وعذابه كلام*
"إنًَّمَا أمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس:82).