لا تحزن
للشيخ / عائض القرني
وقفـــة - الإغضاءُ عنِ هفواتِ الإخوانِ
وقفـــة
(( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفْك في الشِّدَّة )) .
« (تعرَّفْ) بتشديدِ الرَّاءِ (إلى اللهِ) أيْ : تحبَّبْ وتقرَّبْ إليهِ بطاعتِه ، والشُّكرِ لهُ على سابغِ نعمتِه ، والصبر تحت مُرِّ أقْضِيتِهِ ، وصدْقِ الالتجاءِ الخاصِ قبل نزولِ بليَّتِه . (في الرخاءِ) أيْ : في الدَّعةِ والأمْنِ والنعمةِ وسَعَةِ العمرِ وصحَّةِ البدنِ ، فالزمِ الطاعاتِ والإنفاق في القُرُباتِ ، حتى تكون متَّصِفاً عنده بذلك ، معروفاً به . (يعرفْك في الشِّدَّة) بتفريجِها عنك ، وجعْلِه لك منْ كلِّ ضِيقٍ مخرجاً ، ومنْ كلِّ همٍّ فرجاً ، بما سلف منْ ذلك التَّعرُّفِ » .
« ينبغي أنْ يكون بين العبدِ وبين رِّبهِ معرفةٌ خاصَّةٌ بقلبِهِ ، بحيثُ يجدُه قريباً للاستغناءِ لهُ منهُ ، فيأنسُ بهِ في خلوتِه ، ويجدُ حلاوة ذكْرِه ودعائِه ومناجاتِه وطاعتِه ، ولا يزالُ العبدُ يقع في شدائد وكُربٍ في الدنيا والبرْزخِ والموقفِ ، فإذا كان بينهُ وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّة ، كفاهُ ذلك كلُّه » .
الإغضاءُ عنِ هفواتِ الإخوانِ
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ .
لا ينبغي أنْ يزهد فيهِ – أي الأخ- لخُلُقٍ أو خُلُقَيْن ينكرُهما منهُ، إذا رضي سائر أخلاقِه ، وحمِد أكثرَ شِيمِه ، لأنَّ اليسير مغفورٌ ، والكمال مُعوزٌ ، وقدْ قال الكِنْديُّ : كيف تريدُ منْ صديقِك خُلُقاً واحداً ، وهو ذو طبائع أربعٍ . مع أنَّ نفْس الإنسانِ التي هي أخصُّ النفوسِ به ، ومدبَّرةٌ باختيارِه وإرادتِه ، لا تُعطيه قيِادها في كلِّ ما يريدُ ، ولا تُجيبُه إلى طاعتِه في كلِّ ما يجبُ ، فكيف بنفسِ غيرِه ؟! ﴿ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ، ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ .
وحسْبُك أنْ يكون لك منْ أخيك أكثرُه ، وقدْ قال أبو الدرداءِ – رضي الله عنه - : مُعاتبَةُ الأخِ خَيْرٌ منْ فقْدِه ، منْ لك بأخيك كلِّه ؟! فأخذ الشعراءُ هذا المعنى ، فقال أبو العتاهية :
أَأُخيَّ منْ لك مِن بني الد | | نيا بكلِّ أخيك منْ لكْ |
فاسْتبْقِ بعضك لا يَمَلُّـ | | ـك كلُّ منْ لم تُعْطِ كُلَّكْ |
وقال أبو تمامٍ الطائيُّ :
ما غبن المغبون مِثْلُ عقْلِهِ | | منْ لك يوماً بأخيك كُلِّهِ |
وقال بعضُ الحكماء : طَلَبُ الإنصافِ ، مِنْ قلَّةِ الإنصافِ .
وقال بعضُهم : نحنُ ما رضِينا عنْ أنفُسِنا ، فكيف نرضى عنْ غيرِنا !!
وقال بعضُ البلغاءِ : لا يُزهدنَّك في رجلٍ حمدت سيرته ، وارتضيت وتيرته ، وعرفت فَضْله ، وبطنت عقله – عَيْبٌ خفيٌّ ، تحيطُ به كثرةُ فضائلِه ، أو ذنبٌ صغيرٌ تستغفرُ له قوةُ وسائلِه ، فإنك لنْ تجِد – ما بقيت – مُهذَّباً لا يكونُ فيه عيبٌ ، ولا يقعُ منه ذنبٌ ، فاعتبرْ بنفسك بعدُ ألاَّ تراها بعينِ الرضا ، ولا تجري فيها على حُكمِ الهوى ، فإنَّ في اعتبارِك بها ، واختبارِك لها ، ما يُواسيك مما تطلبُ ، ويعطِفك على منْ يُذنبُ ، وقد قال الشاعرُ :
ومنْ ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها | | كفى المرء نُبلاً أنْ تُعدَّ معايبُهْ |
وقال النابغةُ الذُّبيانيُّ :
ولست بمُسْتبْقٍ أخاً لا تلُمُّهُ | | على شعثٍ أيُّ الرِّجالِ المهذَّبِ |
وليس ينقضُ هذا القول ما وصفناهُ منْ اختبارِه ، واختبارِ الخصالِ الأربع فيه ، لأنَّ ما اعوز فيه معفوٌّ عنهُ ، هذا لا ينبغي أنْ تُوحشك فترةٌ تجدُها منهُ ، ولا أنْ تُسيء الظَّنَّ في كبوةٍ تكونُ منه ، ما لم تتحقَّق تغيُّره ، وتتيقَّن تنكُّره ، وليصرفْ ذلك إلى فتراتِ النفوسِ ، واستراحاتِ الخواطرِ ، فإنَّ الإنسان قد يتغيَّرُ عنْ مُراعاةِ نفسِه التي هي أخصُّ النفوسِ به ، ولا يكونُ ذلك منْ عداوةٍ لها ، ولا مللٍ منها . وقدْ قيل في منثورِ الحِكمِ : لا يُفسِدنَّك الظَّنُّ على صديقٍ قد أصلحك اليقينُ له . وقال جعفرُ بنُ محمدٍ لابنِه : يا بُنيَّ ، منْ غضب من إخوانِك ثلاث مرَّاتٍ ، فلمْ يقُل فيك سوى الحقِّ ، فاتخِذْه لنفسِك خِلاّ . وقال الحسنُ بنُ وهبٍ : منْ حقوقٍ المودَّةِ أخْذُ عَفْوِ الإخوانِ ، والإغضاءُ عن تقصير إن كان . وقد روي عنْ عليٍّ – رضي اللهُ عنهُ – في قولِه تعالى : ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ ، قال : الرِّضا بغيرِ عتابٍ .
وقال ابنُ الروميِّ :
همُ الناسُ والدنيا ولابُدَّ منْ قذىً | | يُلِمُّ بعينٍ أو يُكدِّرُ مشْربا |
ومنْ قلّةِ الإنصافِ أنَّك تبتغي الـ | | ـمُهذَّب في الدنيا ولست المهذَبا |
وقال بعضُ الشعراءِ :
تَوَاصُلُنا على الأيامِ باقٍ | | ولكنْ هجرُنا مطرُ الرَّبيعِ |
يرُوعُك صَوْبُهُ لكنْ تراهُ | | على علاَّتِهِ داني النُّزُوعِ |
معاذ اللهِ أنْ تلقى غِضاباً | | سوى دلُ المطاعِ على المُطيعِ |
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾
تريدُ مُهذَّباً لا عيب فيه | | وهلْ عُودٌ يفُوحُ بلا دُخانِ |
﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ .