لا تحزن
للشيخ / عائض القرني
تفاؤلٌ وتشاؤمٌ
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ .
كثيرٌ من الأخيارِ تفاءلوا بالأمرِ الشّاقِّ العسير ، ورأوْا في ذلك خيْراً على المنهجٍ الحقِّ : ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ .
فهذا أبو الدرداءِ يقولُ : أُحبُّ ثلاثاً يكرهُها الناسُ : أحبُّ الفَقْرَ والمرَضَ والموْتَ ، لأنَّ الفقرَ مسكنةٌ ، والمرضَ كفَّرةٌ ، والموت لقاءٌ باللهِ عزَّ وجلَّ .
ولكنَّ الآخرَ يكرهُ الفقر ويذُمُّه ، ويُخبرُ أنَّ الكلاب حتى هي تكرهُ الفقير :
إذا رأتْ يوماً فقيراً مُعدماً | | هرَّتْ عليهِ وكشرَّتْ أنيابها |
والحُمَّى رحَّب بها بعضُهم فقال :
زارتْ مكفِّرةُ الذنوبِ سريعةً | | فسألتُها باللهِ أن لا تُقْلِعِي |
لكنّ المتنبي يقولُ عنها :
بذلتُ لها المطارف والحشايا | | فعافتْها وباتتْ في عِظامي |
وقال يوسُفُ عليهِ السلامُ عنِ السجنِ : ﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ .
وعليُّ بنُ الجهم يقولُ عنِ الحبْسِ أيضاً :
قالوا حُبِسْت فقلتُ ليس بضائري | | حبسْي وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغْمدُ |
ولكنّ عليَّ بن محمدٍ الكاتب يقولُ :
قالوا حُبست فقلتُ خطْبٌ نكِدٌ | | أنْحى عليَّ به الزمانُ المُرْصدُ |
والموتُ أحبَّه كثيرٌ ورحَّبوا بهِ ، فمعاذٌ يقولُ : مرحباً بالموتِ ، حبيبٌ جاء على فاقةٍ ، أفلح منْ ندم .
ويقولُ في ذلك الحُصيُن بنُ الحمامِ :
تأخَّرتُ أستبقي الحياة فلمْ أجِدْ | | لنفسي حياةً مثْل أن أتقدَّمَا |
ويقولُ الآخرُ : لا بأس بالموتِ إذا الموتُ نزلْ .
ولكنَّ الآخرين تذمَّرُوا من الموتِ وسبُّوه وفرُّوا منهُ .
فاليهودُ أحرصُ الناسِ على حياةٍ ، قال سبحانه وتعالى عنهمْ : ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ .
وقال بعضُهم :
ومالي بعد هذا العيشِ عيشٌ | | ومالي بعد هذا الرأسِ رأسُ |
والقتلُ في سبيل اللهِ أمنيةٌ عذْبةٌ عند الأبرارِ الشرفاءِ : ﴿ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ﴾ .
وابنُ رواحة ينشدُ :
لكنَّني أسألُ الرحمنَ مغفرةً | | وطعنةً ذات فزعٍ تقذِفُ الزَّبدا |
ويقولُ ابنُ الطِّرِمَّاح :
أيا ربَّ لا تجعلْ وفاتِي إنْ أتتْ | | على شرْجَعَ يعلو بحُسْنِ المطارِفِ |
ولكنْ شهيداً ثاوياً في عصابةٍ | | يُصابون في فجٍّ مِن الأرض خائفِ |
غير أنَّ بعضهمْ كرِه القتْلَ وفرَّ منه ، يقولُ جميلُ بثينة :
يقولون جاهِد يا جميلُ بغزوةٍ | | وأيُّ جهادٍ غيرهُنَّ أُريدُ |
وقال الأعرابيُّ : واللهِ إني أكرهُ الموت على فراشي ، فكيف أطلبُه في الثغورِ ﴿ قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ، ﴿ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ . إنَّ الوقائع واحدةٌ لكنَّ النفوس هي التي تختلفُ .