صيد الكتب
إعداد
فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب
مناظرة ابن عباس للحرورية
المناظرة سلاح ماض في دفع الشبهة، وقمع البدعة، وهي لا تكون إلا لفئة من الرجال أوتوا علما وفهما لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة لما عند الخصوم من الشبه وكيف الرد عليها، ولديهم من القوة على إقامة الحجج التي تلزم الخصم ولا يستطيع لها دفعا. ولا ينبغي لمن كانت بضاعته في العلم قليلة أن يناظر أهل البدع ونحوهم، وخصوصا إذا كان ذلك المبتدع أقوى منه حججا وأكثر علما، لكي لا يؤتى الإسلام من قِبَله.
وابن عباس رضي الله عنهما، له مناظرة مشهورة عند أهل العلم والنقل مع الحرورية الذين أرادوا الخروج على علي رضي الله عنه، ولقد ساقها ابن عبد البر في جامعه فكان مما جاء فيها:
( قالوا: ما جاء بك [يا ابن عباس]؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم؟ فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول: {بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58] فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه. قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة. قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟. قالوا: ثلاثا. فقلت: ما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله. وقال الله: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57]. قال: قلت: هذه واحدة، وماذا أيضا؟ قال: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسباؤهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله فإن الله تعالى قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95] وقال في المرأة وزوجها: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء: 35] فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشتدكم الله، أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين، وإصلاح ذات بينهم أفضل، أو في دم أرنب ثمن ربع درهم، وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: فأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم. أفتسبوا أمكم عائشة؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين ضلالتين. أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو".
قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين). [1]
[1] - جامع بيان العلم وفضله (المختصر ص 285- 286).