سلسلة قادة غيروا الدنيا
خالد بن الوليد (الجزء الثاني )
دور خالد بن الوليد في فتح بلاد فارس
بعد أن قضى أبي بكر الصديق رضي الله عنه على فتنة الردة -التي كادت تُمَزِّق الأُمَّة وتقضي على الإسلام- توجَّه الصديق ببصره إلى العراق؛ يُريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام.
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه في طليعة القوَّاد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يُحَقِّقَ عددًا من الانتصارات على الفرس، واستمرَّ خالد في تقدُّمه وفتوحاته حتى فتح جزءًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى الأنبار ليفتحها، ولكنَّ أهلها تحصَّنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه؛ ولكنَّ خالدًا لم تُعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصِّنين بالسهام في عيونهم؛ حتى أصابوا نحو ألف عين منهم, ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة فنحرها، وألقى بها في أضيق جانب من الخندق؛ حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين، تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة، فلمَّا رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين .
ثم اتَّجه خالد إلى عين التمر التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس تُؤازرهم بعض قبائل العرب، فلما بلغهم مقدم خالد هربوا، والتجأ مَنْ بقي منهم إلى الحصن، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم مَنْ فيه، فاستخلف «عويم بن الكاهل الأسلمي» على عين التمر، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحها .
دور خالد بن الوليد في فتح بلاد الشام
رأى أبو بكر – رضي الله عنه - أن يتَّجه بفتوحاته إلى الشام بعد أن ثَبَّت خالد بن الوليد – رضي الله عنه - أقدامه في العراق، وبعد انتصاراته الكبيرة على الفرس؛ فقد كان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه : «و الله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد (7) . و لم يُخَيِّب خالدٌ ظنَّ أبي بكر فيه ؛ فقد استطاع أن يصل إلى الشام في وقت قليل لنجدة المسلمين هناك بعد أن سلك طريقًا مختصرًا عبر صحراء السماوة .
وما إن وصل خالد رضي الله عنه إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة؛ ليتمكَّنُوا من مواجهة عدوِّهم والتصدِّي له، وقد أعاد خالدٌ تنظيم الجيش؛ فقسَّمه إلى كراديس (كتائب) ليكثروا في عين عدوِّهم فيهابهم، وجعل كلَّ واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس، فجعل أبا عبيدة في القلب على (18) كُرْدُوسًا، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس .
والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك، وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة، أبلَوْا فيها بلاءً حسنًا حتى كُتب لهم النصر في النهاية, وقُبيل المعركة تُوُفِّي أبو بكر –رضي الله عنه- وتولَّى الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أرسل كتابًا إلى أبي عبيدة بن الجراح يأمره بإمارة الجيش وعزل خالد؛ لأن الناس فُتنوا بخالد؛ حتى ظنُّوا أن لا نصر بدون قيادته، ولكنَّ أبا عبيدة آثر أن يُخفي الكتاب حتى انتهاء المعركة وتبيّن النصر تحت قيادة خالد، وقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف، فيهم كثير من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم .
ولم ينتهِ دور خالد بن الوليد رضي الله عنه في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر رضي الله عنه له وتولية أبي عبيدة أميرًا للجيش؛ وإنما ظلَّ خالدٌ يُقاتل في صفوف المسلمين فارسًا من فرسان الحرب، وبطلاً من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين.
وكان له دورٌ بارزٌ في فتح دمشق وحمص و قِنِّسْرِين، ولم يَفُتُّ في عضده أن يكون واحدًا من جنود المسلمين، ولم يُوهن في عزمه أن يصير جنديًّا بعد أن كان قائدًا وأميرًا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان .
قلنسوة خالد بن الوليد
كان في قلنسوة خالد رضي الله عنه التي يُقاتل بها شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره به وببركته، فلا يزال منصورًا، ففي حجة الوداع ولمَّا حلق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه أعطى خالدًا ناصيته، فكانت في مقدم قلنسوته، فلمَّا سقطت منه قلنسوته يوم اليرموك، أضنى نفسَه والناسَ في البحث عنها؛ فلمَّا عُوتب في ذلك قال: «إن فيها بعضًا من شعر ناصية رسول الله وإني أتفاءل بها وأستنصر».
مقولة خالد بن الوليد قبل موته
تُوُفِّيَ خالد بن الوليد بحمص في 18 من رمضان 21هـ، الموافق 20 من أغسطس 642م، وحينما حضرته الوفاة، إنسابت الدموع من عينيه حارَّة حزينة ضارعة، ولم تكن دموعه رهبة من الموت؛ فلطالما واجه الموت بحدِّ سيفه في المعارك، يحمل رُوحه على سنِّ رمحه، وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة؛ فقد عزَّ عليه أن يموت على فراشه، وهو الذي طالما ارتاد ساحات القتال فترتجف منه قلوب أعدائه، وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وقد جاءت كلماته الأخيرة تُعَبِّر عن ذلك الحزن والأسى في تأثُّر شديد: «لقد حضرتُ كذا وكذا زحفًا وما في جسدي موضع شبر إلَّا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، و هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء (8).
وحينما يسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بوفاته يقول: «دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي ».
المراجع :
1- انظر: ابن كثير: السيرة النبوية، 3/451، و البيهقي : دلائل النبوة 4/350.
2- انظر: ابن كثير: السيرة النبوية، 3/451، و البيهقي : دلائل النبوة 4/350.
3- بأَفلاذ كبدها أَراد صميم قريش ولُبابَها وأَشرافها.
4- انظر: ابن كثير: السيرة النبوية، 3/453، و البيهقي : دلائل النبوة، 4/351.
5- الترمذي (3846)، وقال: هذا حديث حسن .
6- البخاري: كتاب فضائل الصحابة، مناقب خالد بن الوليد –رضي الله عنه، (3547) .
7- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/408.
8- ابن كثير: البداية والنهاية، 7/129.