40 مجلساً في صحبة الحبيب صلى الله عليه و سلم
سيرته – أخلاقه – شمائله
د.عادل بن علي الشدي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الملك سعود
المجْلِسُ الثَّامن عَـشَرَ
بسم الله الرحمن الرحيم
فِي حِفْظِ اللهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و سلم
قَالَ تَعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67].
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ: "أَيْ بَلِّغْ رِسَالَتي وَأَنَا حَافِظُك وَنَاصِرُك وَمُؤيِّدُك عَلى أعْدائِك، وَ مُظْفِرُك بِهْمْ، فَلَا تَخَفْ، وَلَا تحزَنْ، لَنْ يَصِل أَحدٌ مِنْهمْ إِلَيْكَ بِسُوءٍ، وَقَدْ كَان النبيُّ صلى الله عليه و سلم قَبْلَ نُزولِ هَذِهِ الآيةِ يُحْرَسُ".
وَمِنْ صُورِ حِفْظِ اللهِ لنبيِّهِ صلى الله عليه و سلم مَا رواهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَال: هَل يُعفِّر محمدٌ وَجهَهُ بَين أَظْهُرِكُمْ؟
فَقِيل لَهُ: نَعَمْ. فَقَالَ: واللَّاتِ و العُزَّى! إنْ رأيتُه يفعلُ ذَلك لَأَطَأنَّ عَلى رقبَتِه, و لأُعَفِّرنَّ وجْهَه فِي التُّرابِ, فأتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم وَهُوَ يُصَلِّي – زَعَم – لِيَطَأَ عُنقَه. قَالَ: فَما فَجَأهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُو يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، وَيتَّقِي بيدِه. فقالُوا لَه: مَا لكَ؟
قَال: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لخنْدقًا مِنْ نارٍ, وهَوْلاً، وأجْنِحةً.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و سلم: "لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ الملَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" [رواهُ مسلِم].
وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ أبَا جَهْلٍ قَالَ: لئِنْ رأيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِندَ الكَعْبَةِ لَأطأنَّ عَلَى عُنُقِه. فَبَلَغَ ذَلِكَ النبيّ صلى الله عليه و سلم فقالَ: "لَوْ فَعَلَهُ، لَأَخَذَتْهُ الملَائِكَةُ" [رَواه البُخَارِيُّ].
وَعَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَاتَلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم، فحاربَ خصفةً، فَرأَوْا مِنَ المسْلِمين غِرةً، فَجَاءَ رَجلٌ يُقالُ لَهُ: غَوْرَثُ بْنُ الحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: مَنْ يَمنَعُكَ مِنِّي؟ فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم: "اللهُ". فَسَقَطَ السيْفُ مِن يدِه، فأخَذهُ النبيُّ صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" قَالَ: كُنْ خَير آخذٍ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم: "اشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ" قَال: لا, ولكنِّي أُعاهِدُك أَلاّ أُقَاتِلَك, وَلَا أَكُونَ مَع قومٍ يُقاتِلُونَك، فَخَلَّى سبيلَه، فرَجع فقالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ . [رَواهُ الحاكِمُ وصحَّحه] .
وَعَنْ أنسٍ قَالَ: كَان رجلٌ نَصْرَانِيٌّ فأسْلَمَ، وَكَانَ يقرَأُ البَقرةَ وآلَ عِمْرَان، وَكان يكتُب للنبيِّ صلى الله عليه و سلم , فعادَ نَصْرَانيًّا, وَكَانَ يقُول: مَا يدْرِي محمَّدٌ إِلَّا ما كتبتُ لَه، فأماتَهُ اللهُ ، فدفنُوه, فأصْبَحَ وَقَدْ لَفظَتْه الأرْضُ. فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ محمَّدٍ وأصْحَابِه؛ لمَّا هربَ مِنهُمْ نَبَشُوا عَنْ صاحبِنا فألقَوْه، فَحَفَرُوا لَهُ و أَعْمَقُوا, فأصْبَحَ وقدْ لفظَتْه الأرْضُ، فَقالوا: هَذَا فِعْلُ محمَّدٍ وأصحَابِه، نَبشُوا عن صاحبِنا, فَحفَرُوا لَه و أعْمَقُوا ما اسْتَطاعُوا, فَأصْبَحُوا وَ قَدْ لَفظَتْه الأرْضُ، فَعلِمُوا أنَّه ليس مِنَ النَّاسِ، فألقَوْه [رَواهُ البُخارِيُّ] .
وَمِنْ حِفظِ اللهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و سلم أنَّه نجَّاهُ مِنْ مُحاولَةِ اغْتِيالٍ دَبَّرتْها لهُ قُريشٌ بلَيْلٍ، حيثُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قبيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلْدًا، ثُمَّ يُعطى كُلُّ وَاحدٍ مِنْ هَؤُلاءِ سَيْفًا صَارِمًا، فيضْرِبُونَ بِه رسولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم ضربةَ رَجلٍ وَاحِدٍ، فَيقتُلونَهُ, ويتفَرَّقُ دمُه بينَ القَبَائِلِ، فَلَا يَقْدِرُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ العَربِ جَمِيعًا. فَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَذَكَر لَهُ مَكِيدَةَ المشْرِكِينَ، وَأمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي فِرَاشِه تِلْكَ الليلةَ، وأخبَرهُ بأنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَهُ بالهجْرَةِ.
وَمِنْ ذَلِك أَيْضًا: حِفْظُ اللهِ لنبيِّه مِنْ كَيْدِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ فِي طَرِيق الهجْرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حِفْظُ اللهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و سلم وَهُوَ فِي الغَارِ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه : يَا رَسولَ اللهِ! لَوْ نَظَر أَحدُهم إِلى مَوْضِع قدمَيْهِ لَرَآنا. فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا".
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ: "وَمِنْ عِصْمَةِ اللهِ لِرسُولِهِ صلى الله عليه و سلم : حِفظُه مِنْ أَهْلِ مَكَّة وصنَادِيدِهَا وَحُسَّادِها وَمُعَانِدِيهَا وَ مُتْرَفِيها ، مَع شِدَّةِ العَدَاوةِ وَ البَغْضَةِ, وَنَصْبِ المحَارَبةِ لَهُ لَيْلاً وَنَهَارًا, بِما يخلُقُه اللهُ مِنَ الْأَسْبَابِ العَظِيمةِ بِقُدْرَتِه وَحِكْمَتِه العَظيمةِ, فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ بِعمِّه أَبِي طالبٍ, إِذْ كَانَ رَئيسًا مُطاعًا كَبِيرًا فِي قرَيْشٍ, وَخَلَقَ اللهُ فِي قلْبِه محبةً طَبِيعيَّةً لِرسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم لَا شَرْعِيَّةً, وَ لَوْ كَانَ أَسْلَم لاجْتَرأَ عَلَيْهِ كُفَّارُها وَ كِبارُها ، وَ لَكِنْ لمّا كَانَ بينَهُ و بَينهُم قَدْرٌ مُشتَركٌ مِن الكُفْرِ هَابُوه و احْتَرمُوه .
فَلَمَّا ماتَ عَمُّه أَبو طالبٍ نَال مِنْه المشْرِكُونَ أَذًى يَسيرًا، ثُمَّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ الأنْصارَ ، فَبايعُوهُ عَلى الْإِسْلامِ, وَعَلى أَنْ يتحوَّل إِلَى دَارِهِمْ وَهِيَ المدينةُ , فَلَمَّا صَارَ إِليْهَا مَنَعُوه مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأسْوَدِ , وَكُلَّما هَمَّ أحدٌ مِنَ المشْرِكينَ وَأَهْلِ الْكِتابِ بِسُوءٍ كَادهُ اللهُ ، وَرَدَّ كيْدَه عليْهِ([1]) .