40 مجلساً في صحبة الحبيب صلى الله عليه و سلم
سيرته – أخلاقه – شمائله
د.عادل بن علي الشدي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الملك سعود
المجْلِسُ السَّابِعَ عَـشَرَ
بسم الله الرحمن الرحيم
صَبْرُه صلى الله عليه و سلم عَلَى الَأَذَى
لقدْ خَاض النبيُّ صلى الله عليه و سلم غِمَارَ الدَّعوةِ, وَسَلك مَفَاوِزَ النَّصِيحةِ, وَاقتَحم مَيادِينَ الْإِرشَادِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلى عِبادَةِ اللهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتركَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آباؤهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَعِبادَةِ الْأَوْثَانِ, وَدُعاءِ الْأَصْنَامِ، وَأَمرَهُمْ بِتَرْكِ المنْكَراتِ, وَهَجْرِ المحَرَّمَاتِ, فَآمَنَ بِه القليلُ, وَكذَّبَه الكثيرُ.
وَعَلَى الرُّغمِ مِنْ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم قَد صَانهُ اللهُ وَحماه بعمِّه أبِي طَالبٍ، إِلَّا أَنَّه أُوذِي وَحُوصِر وَضُيِّق عَلَيْهِ أَشدَّ التضْيِيقِ، فَفي السَّنةِ السَّابِعَةِ مِنَ النُّبوةِ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم الشِّعبَ مَع عَمِّه أَبِي طالبٍ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطَّلِب مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ مَا عَدا أَبَا لَهبٍ، فَلَمَّا دَخلُوا الشِّعبَ أَجمعَتْ قريشٌ عَلى حِصارِهِمْ, وَأَلَّا يَقْبَلوا لَهمْ صُلْحًا أبدًا، وَقَطعُوا عَنْهم الْأسواقَ، وَمنَعُوهمُ الرِّزْقَ، إِلَّا أَنْ يُسلِّمُوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم ليقتُلُوه, وكَتبُوا بِذلِك صحِيفةً تتضمَّن هذا الظُّلمَ والجَوْرَ، وعلَّقُوها فِي جَوْفِ الكعْبةِ. وَبعدَ دُخُولِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم الشِّعبَ أَمر النبيُّ صلى الله عليه و سلم أصحابَه بالهجْرةِ إِلَى الحبَشةِ, نَظرًا لاشْتِدَاد الْأَذى عَلَيهِمْ – وَهِيَ الهجرةُ الثَّانِيةُ – فَهَاجَر نَحوُ ثَلاثةٍ وَثمانِينَ رَجُلاً، وَثَمانيَ عَشْرَةَ امْرأةً, وَتوجَّه إليهِمْ مُسْلِمو أَهْلِ اليَمَنِ .
وَمَكَثَ صلى الله عليه و سلم فِي الشِّعبِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ سِنينَ، فِي شِدَّةِ الجهْدِ وَالجُوعِ، لَا يَصِلُ إليهِمْ شيءٌ إِلَّا سرًّا، حَتَّى أنهُمْ أَكلُوا وَرَقَ الشَّجَرِ، وَاستَمَرَّ الحالُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى السَّنةِ العَاشِرَةِ, حَيثُ قَام رِجالٌ مِنْ قُرَيْشٍ بنقْضِ الصَّحِيفةِ, فَخَرجَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعْبِ .
وَفِي نفْسِ السَّنةِ تُوفِّيتْ خَدِيجةُ زَوجُ النبيِّ صلى الله عليه و سلم، وبَعدَ وَفَاتِها بنحْوِ شَهْرَيْنِ تُوفِّي عَمُّه أَبو طالبٍ, فَلَمَّا مَات نالتْ قُريشٌ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه و سلم مَا لم تقْدِرْ عَلى نَيْلِهِ فِي حَيَاتِه، وَاشتَدَّ أذَاهُمْ لَهُ, وَتَعُصُّبُهم عَلَيْهِ([1]) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّه كَان صلى الله عليه و سلم يُصلِّي عِنْدَ البيْتِ وَأَبُو جَهلٍ وَأَصحابٌ لَهُ جُلوسٌ، وَقد نُحرِتْ جَزُورٌ بالأمْسِ، فَقالَ أبُو جهلٍ: أَيُّكُمْ يقومُ إِلَى سَلا جَزُورِ بَني فُلانٍ فيأخُذَهُ، فَيَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ محمَّدٍ إذا سجد؟ فانْبعثَ أَشقى القَوْمِ، فأخَذَهُ، فَلَمَّا سَجد النبيُّ صلى الله عليه و سلم وَضعهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَاسْتَضْحَكُوا, وَجعلَ بَعضُهُمْ يَميلُ عَلَى بَعْضٍ. فَجَاءتْ فَاطِمَةُ فَطرَحَتْه عَنه، ثم أقبلتْ تَشتِمُهمْ. فَلَمَّا قَضَى النبيُّ صلى الله عليه و سلم صَلاتَهُ رَفع صَوْتَه، ثُمَّ دعا عَليهِمْ فَقال: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاثَ مَرَّاتٍ. فلمَّا سَمِعُوا صَوْته ذَهَبَ عنهُمُ الضَّحِكُ، وَخافُوا دَعْوَتَه، ثُمَّ قالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ ابْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ, وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ". قَالَ ابْنُ مَسْعودٍ: فَوَالَّذِي بَعثَ مُحمدًا صلى الله عليه و سلم بالحقِّ، لقدْ رأيْتُ الَّذِين سَمَّى صَرْعى يَومَ بدْرٍ، ثُمَّ سُحِبوا إِلى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.
وَفِي أَفْرَادِ البُخَارِيِّ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبي مُعَيْطٍ أَخذَ يَوْمًا بمَنْكِبِهِ صلى الله عليه و سلم وَلَوى ثَوبَهُ فِي عُنُقِه، فَخنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا, فَجاءَ أَبُو بكْرٍ فَدفَعَهُ عَنْه وَقَالَ: أَتقْتُلونَ رَجُلاً أَنْ يقولَ رَبِّي اللهُ؟!
فَلَمَّا اشتدَّ الْأَذَى بِرسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم خَرَجَ إِلى الطَّائِفِ، فَدَعَا قَبائِلَ ثَقيفٍ إِلى الْإِسْلامِ, فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُمْ إِلَّا العنادَ وَالسُّخْرِيةَ وَالأَذَى، وَرَمَوْه بالحجارةِ حَتَّى أدْمَوْا عقبَيْهِ، فقرَّر الرُّجوعَ إِلى مكَّة، وَفِي الطَّرِيق – عِنْدَ قَرْنِ الثَّعالِبِ – رَفعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم رأسَهُ، فَإِذَا سَحابَةٌ قَدْ أظلَّتْه, فَنَظَرَ فَإِذَا فِيهَا جِبريلُ عَليهِ السَّلامُ، فَنَادَاه فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَولَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عليْكَ، وَقَدْ أَرْسَلَ لَكَ مَلَكَ الجِبَالِ لتأْمُرَهُ بِما شِئْتَ فِيهِمْ. فَنادَاهُ مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَليْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَومِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، قَدْ بَعثَنِي إليكَ رَبُّكَ، لتَأْمُرَنِي فِيهِمْ بِما شِئْتَ, إِنْ شئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهم الْأخْشَبَيْنِ – جَبَلانِ بمكَّةَ – فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم : " بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ". [متَّفقٌ عَلَيْهِ] .