المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
أميـــر بن محمـــد المــــــدري
إمام و خطيب مسجد الإيمان - اليمن - عمران
(128) سورة القلم -2- (129) سورة القلم -3
(128) سورة القلم -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، و على آله وصحبه ومن والاه ، و بعد :
يقول تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون أي إنّ لك أجرًا دائمًا مستمرا لا ينقطع ، على صبرك عليهم ، و تبليغك رسالة ربك إليهم ، مع تكذيبهم لك، وإعراضهم عنك. وإنك لعلى خلق عظيم و إنها لشهادةٌ عظيمةٌ من العليّ العظيم ، لنبيّه العظيم ، بعظمةِ أخلاقه ، فلئن جاز لحملةِ الشهادات أن يعلّقوها على الجدران ، فإن هذه الشهادة تستحقّ أن تكتب بسبائك الذهب وتعلق على جدران الفضة، لأنها من الله وكفى بالله شهيدا {النساء: 166}. عن سعيد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أمّ المؤمنين عن خُلُقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . فقالت: أتقرأ القرآنَ؟ فقلت: نعم. فقالت: كان خُلُقُه القرآن . (صحيح) .
و معنى هذا أنه عليه الصلاة و السلام صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيا سجيةً له ، و خُلُقًا تطبّعه و ترك طَبْعَه الجبلّي ، فمهما أمره القرآنُ فعله ، و مهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم و كلِّ خُلُقٍ جميل ، كما ثبت عن أنس قال خدمت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سنين ، فما قال لي أُفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلتُه : لم فعلته ، و لا لشيءٍ لم أفعلْه ألا فعلتَه؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خزا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ مِنْ كفّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممتُ مِسْكًا ولا عِطْرًا كان أطيبَ مِنْ عَرَقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . {حسن صحيح،
والأحاديث في هذا كثيرة . و لأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ على مكارم الأخلاق ويرغب فيها، فكان يقول: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم. {حسن صحيح )
وكان يقول: "إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلُقِه درجة الصائم القائم". {صحيح، رواه: د(4777-154-13)} و كان صلى الله عليه وسلم يقول : "ما مِنْ شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخُلُق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء{صحيح،
وهو الذي يتكلم بالفحش ورديء الأخلاق. فعليك يا عبد الله بحسن الخلق، وإياك وسوء الخلق، واعلم أنه لا يهدي لأحسن الأخلاق إلا الله، ولا يصرف شيئًا إلا هو، ففر إلى الله بالدعاء الدائم وقُلْ : اللّهمّ كما حسّنَتَ خَلْقي حسّن خُلُقي .
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنُه إلى غده مع المشركين الذين رموه بذلك البهتُ اللئيم، ويهدّدهم بافتضاح أمرهم وانكشافِ بطلانهم وضلالهم المبين، فيقول: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون أي: فستعلم يا نبينا ويعلم مخالفوك ومكذّبوك مَنِ الضَّالُّ أنت أم هم؟ لقد قال قومُ ثمود من قبل لنبيهم صالح: بل هو كذاب أشر {القمر: 25}، فقال تعالى : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر {القمر: 26} هم أم صالح؟. وها هم المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم شاعرٌ مجنون ؟ أتواصوا به بل هم قوم طاغون {الذاريات: 53}، والله تعالى يتوعدهم بالفضيحة على رءوسِ الأشهاد يوم القيامة ، فيقول لنبيّه صلى الله عليه وسلم : فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون "وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشفُ عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه، ويثبت أيّهم الممتحن بما هو فيه، أو أيّهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وربه هو الذي أوحى إليه، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه ، وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه، وما يبعث في قلوبهم التوجّس والقلق لما سيجئ".
و صلى الله على نبي الهدى و الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
(129) سورة القلم -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
وقوله تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين وكثرةُ الحلف عنوانُ الكذب، فلا يلجأ إلى كثرة الحلف إلا الكذّاب، أما الصادق فلا يلجأ إلى الحلق أبدا، و لاسيما إذا رُفع ذكرُه، وعُرفَ بين الناس بصدقه. والكذّاب يكذّب نفسّه قبل أن يكذّبه غيرُه، فيلجأ إلى الأَيمان الكاذبة ليصدّقه الناس، وهو يعلم أنّه كاذب. وقد وصف الله كل حلاف بأنه مهين، أي حقير ذليل، قال الحسن : كلّ حلاف مكابر مهين ضعيف . " و المهانة صفةٌ نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا ". و قوله تعالى : هماز أي يهمز الناس ويعيبهم ، و قد توعده الله سبحانه بالحُطمة، فقال: ويل لكل همزة لمزة *الذي جمع مالا وعدده *يحسب أن ماله أخلده *كلا لينبذن في الحطمة *وما أدراك ما الحطمة *نار الله الموقدة *التي تطلع على الأفئدة *إنها عليهم مؤصدة *في عمد ممددة {الهمزة: 1-9}. و الهمز و اللمز خُلُقٌ ذميم ، نهى الله تعالى عنه فقال : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون {الحجرات: 11}.
و أما قوله تعالى : مشاء بنميم فهو الذي يمشي بين الناس ، و يحرّش بينهم و ينقل كلام الناس ليوقع بينهم، وهذا من شر الناس عند الله يوم القيامة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بشراركم؟ المشّاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبّة ، الباغون للبرءاء العنت". وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النميمةَ من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: " إنّهما يعذبان، وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". ( متفق عليه)
كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الذي يمشي بالنميمة لا يدخل الجنة، فقال: "لا يدخل الجنة قتّات". (متفق عليه )
وقوله - تعالى -: مناع للخير أي يمنع الخير عن نفسه وعن غيره، لقد منع عن نفسه الإيمان وهو جماع الخير، كما منعه عن غيره ، بالصدّ عنه والنهي عنه. والمنَّاع للخير من أهل جهنم، كما يقول الله تعالى لملائكته يوم القيامة : ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب *الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد {ق: 24-26} . و هو مع منعه الخير عن الناس معتد أثيم فلم يسلم الناس من شرّه و أذاه، حين منعهم خيره ، بل جمع بين الشرين : فمنع عنهم الخير وأوصل إليهم الضرر و الأذى . و قوله تعالى : عتل وهو الفظّ الغليظ ، الصحيح ، الجموع ، المنوع ، و هذه صفة أهل النار والعياذ بالله ، كما قال صلى الله عليه و سلم : " ألا أنبّئكم بأهل الجنة : كلُّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أنبئكم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جَوّاظٍ مستكبر". متفق عليه .
و قوله تعالى : بعد ذلك زنيم أي بعد هذه الصفات الذميمة فهو زنيم، وقد ذكر المفسرون في معنى هذه الصفة أقوالا كثيرة أرجحها قولان :
الأول: الزنيم هو الرجل المعروف بلُؤْمِه وخُبْثِه، حتى كأنّ به علامةً يعرف بها .
والثاني: أن الزنيم هو الدعيُّ الذي لا يُعْرَفُ نسبُه .
و قوله تعالى : أن كان ذا مال وبنين *إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين؟! معناه هل هذا جزاء إنعامي عليه بالمال والبنين؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبدلا من أن يبادر إلى شكري بالإيمان لي وتصديق رسولي، جعل شكره التكذيب بآياتي، وقال أساطير الأولين! ومِنْ ثَمّ يجيء التهديد: سنسمه على الخرطوم على الأنف والعرب تعبّر عن العّزة والذِلّة بوصف الأنف، فتقول: أَنْفٌ أَشَمّ. للعزيز. وأَنْفٌ في الرّغام. للذليل.ومنه قولهم: رَغِمَ أَنْفُ فُلانِ، أي: ذُل ، لأن أكرمَ ما في الإنسان وَجْهُه، وأَعْلَى ما في الوجه الأَنْفُ، فإذا رَغِمَ الأنفُ أي لَصِقَ بالتراب فذلك عُنوان الذّلة.أعاذنا الله وسائر المسلمين من ذلّ الدنيا وعذاب الآخرة .
و صلى الله على نبي الهدى و الرحمة محمد صلى الله عليه و سلم .