مِنْ قَصَصِ أئمةِ الحَدِيثِ المُتقدّمين وَ نوادرِهم
في تتبعِ سُنّةِ سيّدِ المُرْسلين و الذبِّ عنها
تأليفُ
د.علي بن عبد الله الصّياح
المقدمة :
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُهُ و نستعينهُ ، و نستغفرهُ ، و نعوذُ باللهِ من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم . أمَّا بعد :
فإنَّ القَصَص مِنْ أبلغ الطرقِ في تعليمِ المُخَاطبين والتأثيرِ عليهم لذا :
- أَمَرَ اللهُ نبيهُ بقصّ القَصَص فَقَالَ: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الأعراف176.
- و امتنّ على النبي صلى الله عليه و سلم بأنْ أنزلَ إليه أحسنَ القَصَص فَقَالَ : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يوسف3، و هذا الوصف من الله يدل على أنها أصدقُهَا و أبْلَغُها و أنفعُها للعباد([1]) .
وَقَالَ سبحانه و تعالى : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } الكهف13.
وَ قَالَ سبحانه و تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ }هود100.
وَقَالَ سبحانه و تعالى : { إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ }آل عمران62.
- وأخبر سبحانه و تعالى أنَّ القَصَص سببٌ لتثبيتِ فؤاد النبي صلى الله عليه و سلم فَقَالَ : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ }هود120.
- و أَمَرَ سبحانه وتعالى بالاعتبار بما قصَّ اللهُ في كتابهِ فَقَالَ : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } يوسف111.
و مِنْ هذا المنطلق كَانَ إبراز علمِ السلف وفضلهم مِنْ خلالِ قَصصهم الصحيحة أصدق في الوصف ، و أقرب إلى القلوب ، و أوقع في النّفوس ، و أبلغ في التأثير.
و تُعدّ قصص أئمة الحَدِيث المتقدمين مِنْ أهمّ مصادرِ معرفةِ أصولِ عِلمِ الحديثِ ومناهج النُّقادِ وأصدقِهَا .
وهذه القصصُ والأخبارُ المنتقاةُ في هذا الكتابِ ليستْ مجرد قَصَص عادية تُذْكر للسَمَر والتسليةِ والمتعةِ وقضاءِ الوقت، بل هي متضمنة :
لنكتٍ علميةٍ.. و فوائد منهجية .. و أخلاقٍ عَليّة.. وعِبرٍ جَلية.. و لا تخلو - أحياناً - مِنْ طَرَافةٍ وَ لطافةٍ .
- وأنَّ القصصُ المذكورة نُبَذٌة مختصرةٌ بالنسبة إلى ما تُرِكَ([2])، " ذكرتها لكَ أيها الناظر في هذا الموضع ، لتعرفَ منازلهم، وما كانوا عليه، وكيف حالهم في اجتهادهم في هذا العلم، و الإكباب عليه، فلعل ذلك أن يكون محركاً في المسارعةِ إلى تتبع أثرهم، والسير إليه، لعلك تصل إلى بعض ما وصلوا إليه أو إلى كله، ففضل الله وعطاؤه واسع، لا زال مُنْهَلاً لديه"([3]).
وإليه سبحانه و تعالى السؤال أن يجعلَ ذلكَ خَالصاً لوجههِ الكريمِ، مقتضياً لرضاه ، و أنْ لا يجعلَ العلمَ حُجةً على كاتبهِ في دنياه وأخراه ، وعلى الله قصد السبيل ، وهو حسبنا و نعم الوكيل .
د.علي الصّياح
القصة الأولى
- 1- يُبينُ أحاديثَ الرواةِ وهو في السَّوْق ([4])!
قَالَ أبو جعفر التُّستريّ: ((حَضرنا أبا زُرْعة - يعني الرازيّ – بماشهران ، وكان في السَّوْق، وعنده أبو حَاتِم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان، وجماعةٌ من العلماء فذكروا حَدِيثَ التلقين وقوله :" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ، قَالَ : فاستحيوا من أبي زُرْعة ، وهابوه أنْ يلقنوهُ فقالوا: تعالوا نذكرْ الحديثَ.
فَقَالَ محمدُ بنُ مسلم: حَدّثنَا الضحاكُ بنُ مخلد عَنْ عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفر عَنْ صالح وجَعَلَ يقولُ : ولم يجاوزْ .
وَقَالَ أبو حَاتِم: حَدّثنَا بُنْدارُ قَالَ : حَدّثنَا أبو عَاصم عَنْ عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفر عَنْ صالح ولم يجاوزْ .
والباقون سَكَتوا .
فَقَالَ أبو زُرْعةَ و هو في السَّوْق : حَدّثنَا بُنْدار قَالَ : حَدّثنَا أبو عَاصم قَالَ : حَدّثنَا عبدُ الحميد بنُ جَعفر، عَنْ صالح بنِ أبي عَرِيب ، عَنْ كَثير بنِ مُرّة الحضرميّ، عَنْ مُعَاذ بنِ جَبَل قَالَ : قَالَ رسول الله : " مَنْ كَانَ آخرُ كَلامهِ لا إله إلا الله دَخَلَ الجنة " ، وتوفي رحمه الله))([5]) .
زاد أبو حَاتِم : ((فَصَارَ البيتُ ضجةً ببكاءِ مَنْ حَضَرَ)) .
وَ قَالَ أحمدُ بنُ إسماعيل ابن عمّ أبى زُرْعةَ : ((سمعتُ أبا زُرْعةَ يقولُ في مرضهِ الذي ماتَ فيه : اللهم إنّي أشتاقُ إلى رؤيتك ، فإنْ قَالَ لي : بأيّ عملٍ اشتقت إلىّ ؟ قلتُ : برحمتكَ يا ربّ)) .
و قدْ بوبَ ابنُ أبي حَاتم على هذه القصةِ بقولهِ : ((بابُ ما ظَهَرَ لأبي زُرْعة مِنْ سيّدِ عملهِ عِنْد وفاتهِ))([6]).
وَ قَالَ ابنُ أبي حَاتم أيضاً:((بابُ ما ظَهَرَ لأبي مِنْ سيدِ عَملهِ عِنْد وفاتهِ .
حَضرتُ أبى رَحِمَهُ اللهُ وَ كَانَ في النزعِ وَ أنا لا أعلمُ فسألتُه عَنْ عُقبةَ بنِ عبدِ الغافر يروى عَنْ النبي صلى الله عليه و سلم : له صحبةٌ ؟ فَقَالَ برأسهِ : لا بلسانٍ مسكين ، فلمْ أقنعْ مِنْهُ، فقلتُ : فَهمتَ عنى : لهُ صحبةٌ ؟ قَالَ : هُوَ تابعيّ .
قلتُ: فَكَانَ سيّدُ عملهِ معرفةَ الحَدِيثِ، وناقلةَ الآثارِ، فَكَانَ في عُمُرهِ يقتبسُ مِنْهُ ذلكَ، فَأرادَ اللهُ أنْ يظهرَ عِنْدَ وفاتهِ مَا كَانَ عليه في حياتهِ))([7]).
([2])فكتب السير والتراجم والتواريخ والعلل تحفلُ بمئات القصص وتحتاج إلى إبراز وإظهار، لأنَّ الهممَ قدْ ضَعفتْ عَنْ قراءة المطولات، والبحث في بطونِ الأمهات، فلعل الله أنْ ييسر تتبعها وإخراج بعضها.
([5])انظر القصة في: تقدمة الجرح والتعديل ( ص:345)، معرفة علوم الحديث (ص76)، الإرشاد للخليلي (2/677)، شعب الإيمان (6/546)،تاريخ بغداد (10/335)، تاريخ مدينة دمشق (38/35).
([6]) مِنْ رَوائعِ كلامِ أبي زُرْعةَ مَا نقلهُ البَرذعيُّ قَالَ :شَهدتُ أبَا زُرْعةَ - وَسُئلَ عَنْ الحارثِ المُحَاسِبيّ وَكُتُبِهِ - فَقَالَ لِلسائلِ: إيّاكَ وَهذهِ الكُتُب!، هذِهِ كُتُبُ بِدعٍ وَضَلالات، عَليكَ بالأثرِ فَإنّكَ تجدُ فيهِ مَا يُغْنيكَ عَنْ هذِهِ الكُتُب.
قيلَ لَهُ: في هذِهِ الكُتُب عِبْرةٌ ؟
قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في كتابِ اللهِ عِبْرة فَليسَ لَهُ في هذِهِ الكُتُب عِبْرةٌ ، بَلَغَكُمْ أنَّ مَالكَ بنَ أنس، وَسُفيانَ الثّوريّ، وَ الأوزاعيّ، وَ الأئمةَ المُتقدّمينَ صَنّفوا هذهِ الكُتُب في الخَطَراتِ وَالوَسَاوس، وَهذهِ الأشياء، هؤلاء قومٌ خَالفوا أهلَ العلمِ، يأتونا مَرةً بالحارثِ المُحَاسِبيّ ، ومَرةً بعبد الرّحيم الدَّيبلي ، ومَرةً بحَاتم الأصمّ، وَمَرةً بشقيق ثم قَالَ: مَا أَسْرعَ النَّاسَ إلى البِدّعِ!.
سؤالات البرذعي (2/575)، تاريخ بغداد (8/215)، ميزان الاعتدال (2/165).
قلتُ: فإذا كَانَ أبو زُرْعةَ يقولُ هذا وهو مِنْ أهلِ القرنِ الثالثِ، فماذا تُرانا نقول ونحن نعيش في القرن الخامس عشر!، رُحماكَ ربِّ.
قالَ الذّهبيّ :(( هَكَذا كَانَ أئمة السّلف لا يرونَ الدّخولَ في الكَلامِ ولا الجِدَال، بلْ يستفرغون وُسعهم في الكتاب والسنة، والتفقه فيهما، ويتبعون ولا يتنطعون )). سير أعلام النبلاء (12/119).