الفوائد
للإمام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
الزرعي المعروف بابن القيّم
تحقيق
ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجمل
مدرّس الحديث وعلومه مدرّس الحديث المساعد
جامعة الأزهر
[48] (فائدة) العلم والعمل وما هما - [49] الإيمان له ظاهر و باطن
[48] (فائدة) العلم والعمل وما هما
العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج و إثباتها في النفس .
والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج . فان كان الثابت في النفس مطلقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صورة ليس لها وجود حقيقي , فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما , و إنما هي مقدرة لا حقيقة لها . و أكثر علوم الناس من هذا الباب . و ما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان : نوع تكمل النفس بإدراكه و العلم به , و هو العلم بالله و أسمائه و صفاته و أفعاله و كتبه و أمره و نهيه . و نوع لا يحصل للنفس به كمال , وهو كل علم لا يضر الجهل به فانه لا ينفع العلم به .
و كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع , جزء من حديث أخرجه مسلم في الذكر و الدعاء 4\2088(73) ,و أبو داود , و النسائي و الترمذي و ابن ماجه و أحمد . و هذا أكثر حال العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئا , كالعلم بالفلك و دقائقه و درجاته , و عدد الكواكب ومقاديرها . و العلم بعدد الجبال و ألوانها و مسحتها وما نحو ذلك .
فشرف العلم بحسب شرف معلومة و شدة الحاجة إليه . و ليس ذلك إلا العلم بالله و توابع ذلك . و أما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله و يرضاه , و يكون ذلك من فساد العلم تارّة , و من فساد الإرادة تارّة . ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله و ليس كذلك , أو يعتقد أنه يقرّبه إلى الله و إن لم يكن مشروعا , فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل , و إن لم يعلم أنه مشروع .
و أما فساده من جهة القصد فانه لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة , بل يقصد به الدنيا و الخلق .
وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد و الإرادة . فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعمله.
و الإيمان و اليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الإرادة , و هما يورثان الإيمان و يمدانه . و من هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة .
و لا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة , و تجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق , فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي , و إرادته لله والدار الآخرة , فهذا أصح الناس علما وعملا و هو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله و من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته .
[49] الإيمان له ظاهر وباطن
الإيمان له ظاهر و باطن , و ظاهره قول اللسان وعمل الجوارح . و باطنه تصديق القلب و انقياده و محبته . فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء و عصم به المال و الذريّة , ولا يجزىء باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذّر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن و خلوّه من الإيمان , و نقصه دليل نقصه , و قوته دليل قوته .
فالإيمان قلب الإسلام و لبه . و اليقين قلب الإيمان ولبه . و كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول , و كل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول . (فيه رد على المتصوفة الذين يقولون بالشريعة والحقيقة و يفصلون بينهما و فيه كذلك رد على الشيعة الذين يقولون بالتقية) .