الفوائد
للإمام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب
الزرعي المعروف بابن القيّم
تحقيق
ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجمل
مدرّس الحديث وعلومه مدرّس الحديث المساعد
جامعة الأزهر
[24] فائدة
· ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين : إحداهما : سوء ظنه بربه , و أنه لو أطاعه و آثره لم يعطه خيرا منه حلال , و الثانية : أن يكون عالما بذلك , و أن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه) , لكن تغلب شهوته صبره , وهواه عقله . فالأول من ضعف علمه , و الثاني من ضعف عقله و بصيرته .
قال يحيى بن معاذ : من جمع الله عليه قلبه , و صدقت ضرورته وفاقته , و قوي رجاؤه , فلا يكاد يرد دعاؤه .
(فصل)
· لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها , و خداع الأمل لأربابه , و تملك الشيطان قياد النفوس , و رأوا الدولة للنفس الأمارة , لجأوا إلى حصن التضرّع و الالتجاء , كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده .
· شهوات الدنيا " كلعب الخيال" , و نظر الجاهل مقصور على الظاهر , فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر .
· لاح لهم المشتهى, فلما مدوا أيدي التناول بأن لأبصار البصائر خيط الفخ , فطاروا بأجنحة الحذر, و صوبوا إلى الرحيل الثاني : {يا ليت قومي يعلمون} يونس 26, تلمح القوم الجود, ففهموا المقصود, فأجمعوا الرحيل و شمروا للسير في سواء السبيل , فالناس مشتغلون بالفضلات , و هم في قطع الفلوات , و عصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح .
· وقع ثعلبان في شبكة , فقال أحدهم للآخر : أين الملتقى بعد هذا ؟ فقال : بعد يومين في الدباغة .
· تالله ما كانت الأيام إلا مناما , فاستيقظوا و قد حصلوا على الظفر .
· ما مضى من الدنيا أحلام , و ما بقي منها أماني , و الوقت ضائع بينهما .
· كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه , و ولد لا يعذره , و جار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه , و شريك لا ينصفه , و عدو لا ينام عن معاداته , و نفس أمارة بالسوء , و دنيا متزيّنة , و هوى مرد , و شهوة غالبة له , و غضب قاهر, و شيطان مزين , وضعف مستول عليه . فان تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها , وان تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة .
· لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب و السنة والمحاكمة إليهما , و اعتقدوا عدم الاكتفاء بهما , و عدلوا إلى الآراء و القياس و الاستحسان وأقوال الشيوخ , عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم , و ظلمة في قلوبهم , و كدر في إفهامهم , و محق في عقولهم . و عمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم , حتى ربي فيها الصغير , و هرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا . فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مكان السنن, والنفس مقام العقل , و الهوى مقام الرشد , و الضلال مقام الهدى , و المنكر مقام المعروف , و الجهل مقام العلم , و الرياء مقام الإخلاص , و الباطل مقام الإخلاص , و الباطل مقام الحق , و الكذب مقام الشرك , و المداهنة مقابل النصيحة , و الظلم مقام العدل . فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور , و أهلها هم المشار إليهم فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت, وراياته قد نصبت , و جيوشها قد ركبت , فبطن الأرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبال خير مكن السهول , و مخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس .
اقشعرّت الأرض و أظلمت السماء , و ظهر الفساد في البر و البحر من ظلم الفجرة , و ذهبت البركات , و قلّت الخيرات , و هزلت الوحوش , و تكدرت الحياة من فسق الظلمة , بكى ضوء النهار و ظلمة الليل من الأعمال الخبيثة و الأفعال الفظيعة , و شكا الكرام الكاتبون و المعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات و القبائح . و هذا و الله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه , و مؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه . فاعزلوا عن الطريق هذا السيل بتوبة ممكنة و بابها مفتوح . و كأنكم بالباب و قد أغلق , وبالرهن وقد غلق وبالجناح و قد علق {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء 227 .
· اشتر نفسك اليوم, فان السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك البضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: { ..وذلك يوم التغابن} التغابن 9, { ويوم يعض الظالم على يديه} الفرقان 27.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
· العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه .
· إذا حملت على القلب هموه الدنيا و أثقالها , و تهاونت بأورادها التي هي قوته و حياته , كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها و لا يوفيها علفها , فما أسرع ما تقف به .
و مشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفران ولا إخفاق
هل السائق العجلان يملك أمره فما كل سير اليعملات و خيد
رويدا بأخفاف المطى فإنما تداس جباه تحتها وخدود
اليعمل : الناقة التي تعمل كثيرا, العذرة : خد البعير إذا أسرعت في المشي .
· من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر.
· الغاية أول في التقدير, آخر في الوجود , مبدأ في نظر العقل, منتهى في منازل الوصول .
· ألفت عجز العادة , فلو علت بك همّتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم .
· إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور .
نزول همة الكساح دلاه في جب العذرة . الكساح : داء يصيب الإبل , العذرة فناء البيت , و كذلك يقال للغائط .
· بينك و بين الفائزين جبل الهرم , نزلوا بين يديه و نزلت خلفه , فاطو فصل منزل , تلحق بالقوم .
· الدنيا مضمار سباق , و قد انعقد الغبار و خفى السابق , و الناس في المضمار بين فارس و راجل و أصحاب حمر معقرة .
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أو حمار
· في الطبع شره , و الحمية أوفق .
· لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى .
· حبة المشتهى تحت فخ التلف , فتفكر الذبح و قد هان الصبر .
· قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب , و شدة الحذر من فوت المأمول .
· البخيل فقير لا يؤجر على فقره .
· الصبر على عطش الضر, ولا الشرب من شرعة منّ .
· تجوع الحرة , و لا تأكل بثدييها .
· لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
· غرس الخلوة يثمر الأنس .
· استوحش مما لا يدوم معك , و استأنس بمن لا يفارقك .
· عزلة الجاهل فساد , و أما عزلة العالم فمعها حذاؤها و سقاؤها .
· إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة , و استحضر الفكر وجرت بينهم مناجاة :
أتاك حديث لا يمل سماعه شهى إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى ظلامه
· إذا خرجت من عدوك لفظة سفه , فلا تلحقها بمثلها تلقّحها , و نسل الخصام نسل مذموم .
· حميتك لنفسك أثر الجهل بها , فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها .
· إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بحراق القادح .
· أوثق غضبك بسلسلة الحلم , فانه كلب أن أفلت أتلف .
· من سبقت له سابقة السعادة , دل على الدليل قبل الطلب .
· إذا أراد القدر شخصا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق , ثم سقاه بماء الرغبة و الرهبة , ثم أقام عليه بأطوار المراقبة , و استخدم له حارس العلم , فإذا الزرع قائم على سوقه .
· إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة , و ردفه قمر العزيمة , أشرقت أرض القلب بنور ربها .
· إذا جن الليل تغالب النوم و السهر, فالخوف و الشوق في مقدم عسكر اليقظة , و الكسل والتواني في كتيبة الغفلة , فإذا حمل العزم حمل على الميمنة فانهزمت جنود التفريط, فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وبردت الغنيمة لأهلها .
· سفر الليل لا بطيقه إلا مضمر المجاعة , النجائب في الأول , و حاملات الزاد في الأخير .
· لا تسأم الوقوف على الباب و لو طردت , و لا تقطع الاعتذار و لو ردت , فان فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين و ادخل دخول الطفيلية وابسط كف {وتصدّق علينا} يوسف 88 .
· يا مستفتحا باب المعاش بغير اقليد التقوى (أي مفتاحها) , كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الزرع .
· لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد .
· المعاصي سد في باب الكسب , و" أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " , جزء من حديث أخرجه ابن ماجه 2\1334 رقم 4022, و أحمد 5\277, عن ثوبان .
تالله ما جئتكم زائرا إلا وجدت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم إلا عثرت بأذيالي
· الأرواح هي الأشباح كالأطيار في الأبراج , و ليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق .
· من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله .
· كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا , فان الوليد يتبع الأم .
· الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها , فكيف تعدو خلفها ؟ .
· الدنيا مجاز والآخرة وطن , و الأوطار إنما تطلب من الأوطان . الاجتماع بالخوان قسمان :
أحدهما : اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت , فهذا مضرّته أرجح من منفعته , و أقل ما فيه أنه يفسد القلب و يضيع الوقت .
ثانيهما : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق و الصبر , فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها , و لكن فيها ثلاث آفات :
الأولى : تزين بعضهم لبعض .
الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة .
الثالثة : أن يصير ذلك شهوة و عادة ينقطع بها عن المقصود .
و بالجملة , فالاجتماع و الخلطة لقاح أمل للنفس الأمارة و أما للقلب و النفس المطمئنة , و النتيجة مستفادة من اللقاح , فمن طاب لقاحه طابت ثمرته , و هكذا الأرواح الطيّبة لقاحها من الملك , و الخبيثة لقاحها من الشيطان , و قد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين , و الطيبين للطيبات و عكس ذلك . اقرأ الآية 26 من سورة النور .